12-03-2009, 10:44 PM | #1 |
|
بين الصياح والانشراح أربعة أمتار!!.
بين الصياح والانشراح أربعة أمتار!!. مبنى يحتوي مكاتب شركة من الشركات، فيه موضعان لم أرَ أغرب منهما، أولهما مكان بعينه في دهليز بين صفين من الغرف، مساحته ثلاثة أمتار مربعة، يقف فيه أحدهم فيعلوا صراخه، وتهديده ووعيده، ثم يجاوز تلك الأمتار الثلاثة ويدخل غرفة مجاورة، يمكث فيها قليلاً ثم يخرج منشرحاً غاية الإنشراح، سارحاً في خيالات وأفكار، تتفلت منه الضحكات كرها، لا يمكن لأحد أن يصف تعابير الفرحة على وجه ذلك الشخص، الذي كان قبل دقائق مكفهر الوجه، يرعد ويزبد، وصراخه يرج مكاتب تلك الشركة، وقد بليت أن يكون مكتبي جوار المكان المُصرَّخ أو المصراخ، أي الموضع الذي يعلو فيه صراخ أناس بعينهم، في موسم بعينه، وفي أول الأمر لم أعرف كنه ذلك الصراخ، ولا سر ذلك الانشراح، ولن يفهمه القارئ ما لم أبدأ بتوضيح بعض الأمور، ذلك أن المبنى الذي يحدث فيه ذلك تستأجره شركة، هي واحدة من مجموعة شركات حكومية عملاقة، يجمعها مسمىً واحد، ويديرها جيش من المدراء والعاملين، يتربع على قيادتهم شخص واحد، ولأن الحيز الإشرافي للشخص المتربع على قمة الهرم متسع جداً، أقترح إنشاء إدارة مراقبة محاسبية تدقق وتراقب حسابات الشركات التي يرأسها وصفق كثير لهذه الفكرة، وعللوها بشدة حرص الرجل على المال العام، فقد كان للدولة ديوان خاص بالمراقبة المالية، وكان يكفي, وكلن باقتراح ذلك المسئول صار لتلك الشركات فريقان للمراقبة المالية، يسبق أحدهما الآخر في الغالب, يسبق فريق المراقبة الداخلي, فريق المراقبة الممثل للدولة, والعمل المحاسبي عمل دقيق، وصفه مرة أحد رؤساء مجلس إدارة شركة ما فقال: لله در المدققين الماليين، إنهم كالسلاح ذي الحدين، فهم يستطيعون تحويل الشركة الخاسرة إلى رابحة، ولكن على الورق، أذكر أن أحد المراقبين الماليين، من الفريق التابع للدولة، جلس يرتاح في مكتبي، ودار بيني وبينه حديث، وقلت له بنبرة حادة، أنظمتكم ولوائحكم رخوة يسهل اختراقها، ولو أنكم أضفتم مادة تقول كيت وكيت، لكانت رقابتكم أكثر فاعلية، ولتمت حماية المال من الأساليب غير المشروعة، فالتفت إليَّ وقال: والله يا أخي الكريم إن جميع أساليب المراقبة لا تجدي، لا كالرقيب الداخلي، قال ذلك وأشار إلى صدره، قلت في نفسي صدقت، ولكن لابد من وجود عقاب يخيف على أقل تقدير، تبأً لهذه الطفرة أزالت الخوف من قلوب الناس، لقد كان لنا قبل هذه الطفرة نظام يعاقب ويسجن ويسترد ولو بعض المفقودات على الأقل، فأين هو الآن، والتفت إلي صاحبي وقال: حال الدنيا!، سادت ثقافة الغرب مجتمعات الدول النامية، فلم تعد الخيانة كبيرة, وألصق بالشخص الأمين صفة المعقد نفسياً، وكان أول هذا الأمر، أن مجتمعاتنا أخذت تتحاور عن المال يعطى لمن يحقق لشركة ما الفوز بتنفيذ مشروع من مشروعات المال العام، وجملوا تسمية ذلك فقالوا عمولة، كنا فيما مضى ننفر منه، ونضع نصب أعيننا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بال رجال نستعملهم على العمل فيجيء أحدهم فيقول هذا لكم وهذا أُهدي إلي أفلا جلس أحدهم في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا))، والهدية أهون من العمولة، فالعمولة تعطى بشرط واتفاق، والهدية تعطى دون اتفاق، ودون أن يطلبها المهدى إليه، ولما هانت العمولة في أعين الناس امتدت الأيدي إلى ما سواها، وهي أخلاق غربية تسربت إلينا، والغريب أن الغرب يصنف الدول إلى ذات شفافية، ودول تسود فيها عدم النزاهة، ومن علَّم الناس هذه الأخلاق سواكم يا أمة الغرب يا أمة الفجور. ترددت كثيراً في التعريض بالجانب المالي في هذه القصة، ولم أجد وسيلة للإعراض عنه، لأن له مساس بأحداثها وأفرادها، بل وبجوهرها، ومهما يكن فإفراد الرواية لا يمثلون مجتمعنا، وليسوا الكثرة فيه، ففي مجتمعنا الخير كل الخير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول الخير فيّ وفي أمتي إلى قيام الساعة، ونحن تعودنا في علاقتنا بعضنا البعض أن نتهامس بمثل هذه الأمور في غرف مغلقة، وليس ذلك حسناً، فقد اتخذ عبدالله بن سبأ اليهودي التهامس وسيلة لهدم الدولة الإسلامية، كما أن المجاهرة بهذا الأمر والتشهير أشد سوءاً، والواجب التوسط في أداء الواجب، وأقصد واجب النصيحة، وإذا فهم من هذه القصة أن غايتي النصيحة فأسأل الله الأجر، ولكني أؤكد أن غايتي تعريف القارئ بأمر تحقق فيه أمام ناظري، وعد الله جل وعلا في قوله عز من قائل: ((فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين)) آل عمران، فلنعد إلى دهليز الصراخ وغرفة الانشراح. ما كنت أعلم سر ذلك الصراخ، ولا سبب تلك الضحكات المتفلتة، والإنشراح الذي تبرق له الأعين، وتشرق له أسارير الوجوه، إنه سرور لا يمكن وصفه بالكلمات، وكان مديري باكستانياً يحمل الماجستير في الحقوق، ولقد تعلمت من ذلك الرجل كثيراً، فكم كان يردد على مسمعي إن على أمتنا أن تتخلق بالإسلام، كي تسود، أو على أقل تقدير، كي تدفع عن نفسها جور عبدة الصليب، فالحضارات تبنى على المثل، لا تبنى على التبعية والتقليد وهوان الأنفس، والغريب أننا نقلد الحضارة الغربية في عوامل انحدارها، ولا نقلدها في مقومات نهضتها، والأشد سوءاً من تقليدنا لها في انحدارها، أن نعمل العمل وأعيننا شاخصة إليهم، أيثنون على عملنا أم يذمونه، ولهم أذناب لدينا اتخذوا العالمية إلهاً. قلت لم أكن أعرف سر ذلك المكان الذي يقف فيه أحدهم، فيرتفع صياحه، حتى جاء موعد التدقيق المالي الأول، وتقوم به كما أسلفت إدارة أنشأها المسؤول عن جميع تلك المشروعات، وهذا التدقيق يسبق التدقيق الرسمي، الذي تقوم به الإدارة الحكومية، أقصد ديوان المراقبة العامة, لم أسمع ولو مرة أي مدقق من قبل الدولة يصرخ أو ينتقد، لأنهم لا يأتون إلا والحسابات وجميع القيود المحاسبية سليمة مائة في المائة، دفترياً ليس إلاّ, وعدم وجود أي قيد خاطئ، أو فيه نسبة ولو قليلة من الخطأ، كان على مدققي الدولة أن يلفت نظرهم, فهو دليل على وجود أمر ما أو تصرف ما أدى إلى تلافي الأخطاء وستر العيوب، والمدقق الذي جاء من المراقبة الداخلية هذه المرة تبدو على وجهه الصرامة والحزم، وغاص في الملفات والأوراق أربعة أيام، دون أن نسمع له صوتاً، والتقيت به بين مبنى شركتنا، وشقيقتها الشركة المجاورة، وسلمت عليه، وقلت له دون تردد وبجرأة، عليك بالقيد الفلاني بتاريخ والقيد الفلاني بتاريخ، ستجد فيها أساليب ملتوية، حيث حقيقتها كيت وكيت، لقد تجرأت في مصارحته، لأني رأيت في وجهه الحزم والصرامة، ومضى ذلك اليوم، وإذا به في اليوم الذي تلاه، يقف في نفس المكان ويعلو صراخه، لقد اختلط على صوته فلم أدر ما يقول، وسمعت شخصاً ينصحه بدخول الغرفة, فالذي فيها هو المسئول عن كل حسابات الشركة، وقلت لمديري الباكستاني ما الخبر فالتفت إلي وقال لا تكترث، وسألني هل دخل الغرفة، قلت له نعم، قال انتهت المشكلة وأشار بحركة من يده وحاجبيه وببريق من عينيه، وفهمت مراده ولم أصدق، وبعد ما يقارب النصف الساعة خرجت من غرفتي لأمر، وتصادف خروجي مع خروج ذلك المدقق الحازم الصارم من الغرفة، والتفت إليه فرأيت على وجهه سروراً، لم أر والله في حياتي علامات سرور على وجه بشر مثل ما رأيت على وجه ذلك الشخص، حتى أنه مر بجانبي وكتفه كادت أن تلمس كتفي ولم يرني من فرط سروره، وكان يسير مطرقاً يهيم في خيالات فرحة لا توصف، تتفلت منه ضحكات خفيفة كرهاً، يحاول كتمها جهده فلا يستطيع، ما أحلى السرور، ولكن إذا رضي عنه الخالق، وعدت إلى مكتبي فقال لي مديري الباكستاني، هل خرج المدقق من عند فلان؟ قلت نعم، قال: انتهى المشكل اطمئن، وأرفق بعبارته ابتسامة خفيفة وبريقاً ماكراً من عينيه، ومضت ثلاثة أو أربعة أيام، نسيني فيها المدقق، ونسي أني أرشدته إلى قيود خاطئة، بل فيها ما فيها!, وتصادف ذات يوم خروجي مع خروجه من مبنى الشركة، فأمسك بزندي وقال هلم معي أريك شيئاً، وأردف أنا لا يهمني في الحق لومة لائم، لقد بهدلتهم في التقرير الذي سأرفعه لمعالي فلان المسئول المباشر عن الشركات، والبهدلة في الفصحى تعني الاستخفاف، وأردف الأمانة الأمانة، أشفقت وأبت من حملها السماوات والأرض، وبعد أن ولجنا إلى مكتبه في المبنى المجاور، واتخذنا مجلسينا، أخرج من مكتبه رزمة من الأوراق، تمثل صورة للتقرير الذي رفعه للمسئول المباشر عن تلك الشركات، وأخذ يقرأ في مقدمته، ثم أشار بقلمه إلى الفقرة الأهم فيه، ودفعه إليَّ لأقرأها بنفسي وأتأكد أنه فضحهم، فإذا تلك الفقرة تقول: لقد كانت كل حسابات الشركة سليمة، أجريت بقيود محاسبية صحيحة، باستثناء العملية الفلانية، فقد أخطأوا في قيدها وأرشدناهم إلى أسلوب القيد السليم، وقد قاموا بتصحيح القيد. سحب المدقق صورة القرار من يدي، وأخذ يقرأ الجملة الآنفة وهو يقول: أرأيت أرأيت، الأمانة الأمانة، نظرت إليه وقلت ساخراً، نعم أحسنت أحسنت لا يعلم الرجل أني بدأت حياتي الوظيفية محاسباً في محاسبة أحد البنوك مدة سبع سنوات. إن أهم ما في المراقبة المالية أن يتم التدقيق المحاسبي فجأة، ولكن السماح لمعالي المسئول بإنشاء مراقبة مالية داخلية، دعمها بأفضل الكفاءات، أدى إلى ستر العيوب بأسلوب محاسبي بارع، وأصبح دور المراقبة الداخلية ستر الإنتهاب, لقد كانت جهود تلك الإدارة تسبق مجيء المدقيين الرسميين، فيأتي المدققون الرسميون للتوقيع على حسن سير العمل، معذرة لعدم استخدامي الأسماء الصريحة للإدارات، فالمراد من هذه القصة الإعتبار بثواب الله للعبد المؤمن إذا ابتلي فصبر. إنقضت أحد عشر شهراً وجاء موعد الصراخ، وتفاجأنا بمدقق مصري هذه المرة وليس سعودياً كما جرت العادة، وحين مر جوار مكتبي ألقى إلي السلام، ثم دلف إلى المكتب الذي يتخذه المدققون مكاناً للتدقيق، ورفعت يدي إلى السماء حين رأيته، سائلاً الله ألا يصرخ وأنا موجود، فأنا أعرف حناجر الإخوة المصريين، ولكن مضت الأيام والرجل يعمل في صمت، ثم حمل حقيبته ورحل، وإذا بالمدققيين السعوديين يعودون في اليوم التالي لغيابه، ويعملون في صمت وينصرفون، لم يعودوا يصرخون، وتكرر مجيء الأخ المصري، ونشأت بيني وبينه علاقة حميمة، كان متديناً، وكان متذمراً وشكى لي أن تقاريره لا يكون لها رد فعل، وقدرنا أن معالي المسئول يلقي تقاريره في سلة المهملات رغم أهميتها، ولكني انتهيت إلى أن تقاريره تكشف ما يجب ستره عن أعين مدققي الدولة، ما أشبه هذه اللعبة بقصة القط والفار ((توم وجيري))، ومع مرور الزمن وتوطد علاقتنا استطعت أن أصل إلى أحد تقاريره، فلمست فيه ليس فقط الأمانة ومخافة الله، بل القدرة العجيبة على اكتشاف المعاملات والقيود المشبوهة، حتى أن بعضها لا يزيد مبلغ الواحد منها عن عشرة ريالات، ناهيك عن المبالغ بالملايين، لقد كانت تقاريره تبلغ مئات الصفحات، وفي إحدى السنين جاء للتدقيق وقد تعقفت أصابع يديه العشر، حتى أنه إذا أراد الكتابة وضع القلم بين إصبع إبهامه وسلاما كفه، وقد عود نفسه على الكتابة بذلك الوضع، ولكن بخط بالكاد يقرأ، وسألته ما الذي أصابه فتعقفت أصابع يديه؟، فقال إنه مرض الروماتويد أرثورايتس، وهو التهاب يصيب المفاصل فيدمرها، ويقال لا علاج شافٍ له، ويزعم الطب الحديث أنه وراثي، وشكا لي صديقي أنه وصل إلى مرحلة العلاج بإبر الذهب ((ثبت مؤخراً أنها تسبب سرطان الدم)). كما شكا من أوضاع ماليه، وما تعانيه أسرته في القاهرة، إذ يوشك أن يلقى بها في قارعة الطريق، كذلك شكا ما تعانيه أخته من ظروف المعيشة، سقطت من عيني دمعة جراء شكواه، وبرغم ذلك رفض أن يدخل غرفة الإنشراح، وظل يؤدي عمله بأمانة، لا يبالي ما تكون النتائج، فقط كان يرضي ربه، ثم منع من التدقيق ولعامين متتاليين لم يزر شركتنا لا مع المدققيين الآخرين ولا منفرداً، ويعلم الله أني قلقت لأجله، خشيت أن يكون أقعده المرض، أو تم إلغاء عقده، فتزداد أموره سوءاً، وتزداد معيشته ضنكاً، مع يقيني أن الله يعين في بلائه عبده المؤمن, وفي السنة الثالثة قابلته صدفة، ومد لي يده يصافحني، وكم كانت فرحتي حين رأيته سليماً معافى، بل أفضل مما كان قبل المرض، وحمدت الله على شفائه وأنا أسلم عليه, وسألته عن الدواء الذي تداوى به بعد إبر الذهب، فقال لن تصدق، قلت بل أصدق، قال جمعت كل الأدوية، وألقيتها في سلة المهملات، وقلت اللهم أنت الشافي، أسألك أن تشفيني، فإن كان لابد من البلاء فارزقني الصبر عليه، وأجاب الله دعوتي، وأنا الآن كما ترى، فقلت في سري لقد أرادوك على أمانتك فأبيت وصبرت، وقست عليك ظروفك المادية فاستقمت على الحلال، وابتلاك الله بالمرض فصبرت ولم تجزع، ودعوت الله فأثابك ثواب الدنيا، وأسأل الله أن يجزيك حسن ثواب الآخرة، قال تعالى: ((هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)) سورة ص, أقسم بالله أن هذه القصة حدثت أمام عيني, فهل من مدكر. هادي بن علي بن أحمد أبوعامرية.. |
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|