الموضوع: من صمت نجــــا
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-06-2010, 03:53 AM   #1


الصورة الرمزية سلطانة الاحزان
سلطانة الاحزان غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 186
 تاريخ التسجيل :  Jul 2009
 أخر زيارة : 10-13-2012 (11:48 PM)
 المشاركات : 2,831 [ + ]
 التقييم :  2147483647
لوني المفضل : Cadetblue
5 من صمت نجــــا



إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}[آل عمران: 102].

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: 1].

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما} [الأحزاب: 70 ـ 71].

أما بعد:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

وبعد:

(( اعلم أن الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يُقْدَر على ردِّ شوارده، فَحَقَّ على العاقل أن يَحْتَرِزَ من زلَلِهِ بالإمساك عنه، أو بالإقلال منه.

رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” رحم الله من قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم “ ([1]) .

وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ:” يا معاذ، أنت سالم ما سكتَّ، فإذا تكلمت فعليك أو لك “ ([2]) .

وقال عليُّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه: اللسان معيارٌ أطاشَهُ الجهل، وأرجَحَهُ العقل.

وقال بعضُ الحكماء: الزَمِ الصَّمْتَ تُعَدَّ حكيمًا، جاهلًا كنت أو عليمًا .

وقال بعضُ الأُدَبَاءِ: سَعِدَ مَن لسانه صموتٌ، وكلَامه قُوت.

وقال بعضُ العلماء: مِنْ أَعْوَزِ مَا يتكلَّمُ به العاقل، أَلَّا يتكلم إِلَّا لِحَاجَتِهِ، أو لِحُجَّتِهِ، وَلَا يفكِّر إِلَّا في عاقبته، أو في آخرته .

وقال بعض البُلَغَاء: الزمِ الصَّمْتَ، فَإِنَّهُ يكسبك صفو الْمَحَبَّة، ويؤمنك سوء المغبة، ويلبسك ثوب الوقار، ويكفيك مؤنة الاعتذار.

وقال بعض الفصحاء: اعقل لسانك إِلَّا عن حقٍّ توضحه، أَوْ بَاطلٍ تدحَضُه، أو حكمةٍ تنشرها، أو نعمةٍ تشكُرُها.


وقال الشاعر: [ الوافر ]



رَأَيْتُ العِزَّ فِي أَدَبٍ وعَقْلٍ

وَفِي الْجَهْلِ الْمَذَلَّةُ وَالْهَوَانُ
وَمَا حُسْنُ الرِّجَالِ لَهُمْ بِحُسْنٍ

إِذَا لَمْ يُسعِدِ الْحُسْنَ الْبَيَانُ
كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَرَاهُ

لَهُ وَجْهٌ وَلَيْسَ لَهُ لِسَانُ ([3])


واعلم أن في كثرة الكلام مفاسد منها:

1 ـ أنه ذريعة للوقوع في الذنب: قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” …. وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ “([4]) .

عن طاووس قال: (( ما من شيءٍ يتكلم به ابن آدم إِلَّا أُحصِيَ عليه، حتى أنِينُهُ في مرضه ))([5]).

وعن يونس بن عبيد قال: (( لا تجد مِنَ البِرِّ شيئًا واحدًا يَتْبَعُهُ البِرُّ كله غير اللسان؛ فإنك تجد الرجلَ يكثر الصيام، ويفطر على الحرام، ويقوم الليل، ويشهد بالزور بالنهار ))([6]).

وقال عمر بن عبد العزيز: من لم يعدّ كلامهُ من عمله كثرت خطاياه.

وقال بعض الحكماء: من كثر كلامه كثرت آثامه.

وآثام اللسان كثيرة نظم منها العلامة الْمرداوي([7]): [ الطويل ]

ويَحْرُمُ بُهتٌ واغْتِيَابٌ نَمِيمَةٌ

وإفْشاءُ سِرٍّ ثُمَّ لَعْنُ مُقيَّدِ
وفُحْشٌ وَمَكرٌ والبِذَا وخَدِيعةٌ

وسُخْريَةٌ والهُزءُ والكذبَ قَيِّدِ
لِغَيرِ خِدَاعِ الكَافرِينَ بِحَرْبِهِمْ

وَلِلعُرْسِ أَوْ اصْلَاحِ أَهْلِ التَّنَكُّدِ
وَأوْجِبْ عَن المَحْظُورِ كَفَّ جَوَارِحٍ

ونَدْبٌ عَنِ المَكْرُوهِ غَيرَ مُشَدَّدِ
وَقَدْ قِيلَ صُغْرَى غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ

وكِلْتَاهُمَا كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ




2 ـ أنه يكشف ما في عقل الْمَرْءِ: [ الطويل ]

قال عليُّ بن بشار ([8]):

رَأَيتُ لِسَانَ الْمَرْءِ آيَةَ عَقْلِهِ

وَعُنْوانَهُ فَانظُرْ بِمَاذَا تُعَنْوِنُ
وَلاَ تَعْدُ إِصْلاَحَ اللِّسَانِ فَإِنَّهُ

يُخبر عَمَّا عِنْدَهُ ويُبَيِّنُ
وَيُعْجِبُنِي زِيُّ الْفَتَى وَجَمَالُهُ

فَيَسْقُطُ مِنْ عَيْنَيَّ سَاعَةَ يَلْحَنُ


فَلاَ شَيء أولى بطول حَبْسٍ من لسانٍ يَقْصُرُ عَنِ الصَّوَابِ، وَيُسْرِعُ إِلَى الْجَوَابِ.

قال أبو تمام الطائي: [ الوافر ]

مِمَّا كَانَتِ الْحُكَمَاءُ قالتْ:

لسان المَرْءِ مِنْ تبع الفؤادِ


وقد (( حَكَى ابن عائشة: أن شابًّا كان يجالس الأحنف ويطيل الصَّمت، فأعجَبَ ذلك الأحنف، فخلَتْ الحلقة يومًا، فقال له الأحنف: تكلَّم يا ابنَ أخي؛ فقال: يا عم، أرأيت لو أن رجلاً سقط من شُرْفَةِ هذا المسجد هل كان يضرُّه شيء؟ فقال: يا ابن أخي، ليتنا تركناك مستورًا !، ثم تمثل الأحنفُ بقول الأعور الشَّنِّي : [ الطويل ]

وَكَائِنْ تَرَى منْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ

زِيَادَتُهُ أوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فؤادُهُ

فلَمْ يَبْقَ إلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ والدَّمِ


وكالذي حُكِي عن أبي يوسف الفقيه: أنَّ رجلاً كان يجلس إليه، فيطيل الصَّمت، فقال له أبو يوسف: ألا تسأل؟ قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال: فإن لم تغرب الشمس إلى نصف الليل؟ قال: فتبسَّم أبو يوسف رحمه الله، وتمثَّل بيتي الخَطَفي، جدِّ جرير: [ الطويل ]

عَجِبتُ لإِزْرَاءِ العَيِيِّ بِنَفْسِهِ


وصَمْتِ الذِي قَدْ كَانَ بِالقَوْلِ أَعْلَمَا
وَفِي الصَّمْتِ سَترٌ لِلعَيِيِّ وَإِنَّمَا

صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أنْ يَتَكَلَّمَا


ومما أُطْرِفُكَ به عنِّي([9]) : أني كنت يومًا في مجلسي بالبصرة، وأنا مقبل على تدريس أصحابي، إذ دخل عليَّ رجل مُسِنٌّ، قد ناهز الثمانين أو جاوزها، فقال لي: قد قصدتُك بمسألةٍ اخترتك لها. فقلت: اسأل عافاك الله، وظننته يسأل عن حادثٍ قد نزل به. فقال: أخبرني عن نجم إبليس، ونجم آدم، ما هو؟ فإن هذين لعظم شأنهما لا يُسأل عنهما إلاَّ علماء الدين، فعجبت وعجبَ مَنْ في مجلسي من سؤاله، وبدر إليه قومٌ منهم بالإنكار والاستخفاف، فكففتهم عنه، وقلت: هذا لا يَقْنَعُ مع ما ظهر من حاله إلا بجواب مثله، فأقبلت عليه وقلت له: يا هذا، إنَّ الْمُنَجِّمِينَ يزعمون أن نجوم الناس لا تُعرَف إلا بمعرفة مواليدهم، فإن ظفِرْتَ بمن يَعرف ذلك فاسأله. فحينئذٍ أقبل عليَّ وقال: جزاك الله خيرًا، ثم انصرف مسرورًا، فلمَّا كان بعد أيام عاد وقال: ما وجدْت إلى وقتي هذا من يَعرف مولد هذين.

فانظر إلى هؤلاء كيف أبانوا بالكلام عن جهلهم، وأعربوا عن نقصهم ))([10]) فلو سكتوا: لسلموا، ولجهلهم: ستروا. [ الكامل ]

فَزِنِ الكَلامَ إذَا نَطَقْتَ فإِنَّمَا



يُبْدِي عُيُوبَ ذَوِي العُيُوبِ الْمَنْطِقُ


3 ـ أنه قد يوقع المرء في الندم:

كم من إنسان تكلم بكلمة فندم عليها، وتمنى أنه لم يقلها.

قال أبو سعيد السمعاني: أنشدَنا أبو المظفر شبيب بن الحسين القاضي، قال: أنشدني أبو إسحاق الشيرازي لنفسِه: [ الكامل ]

((جاء الربيعُ وحُسنُ وَرْدِهْ

ومَضَى الشتاءُ وقُبْحُ بَرْدِهْ
فاشرَبْ على وَجْهِ الْحَبِـ

ـيبِ ووجَنَتَيْهِ وحُسْنِ خَدِّهْ


قال ابن السمعاني: قال لي شَبِيبٌ بعدَ ما أنشدني هذين البيتين : أُنْشِدَا عِنْدَ القاضي عَيْنِ الدَّولَةِ حاكِم صُور ـ بلدة على ساحل البحر جنوب بيروت ـ، فقال لغلامه: أحضِرْ ذاك الشأنَ، يعني الشراب، فقد أفتانا به الإمامُ أبو إسحاق.

فبكى أبو إسحاق، ودَعَا على نفسه، وقال. لَيْتَنِي لَمْ أَقُلْ هذين البيتين قَطُّ، ثم قال لي: كيف نرُدُّهُما من أفواه الناس؟ فقلتُ: يا سيِّدي هيهات!! قد سارَتْ بهما الرُّكْبَان ))([11]).

وقال ثعلب: (( أجمعوا أنه لم يكن أحد بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز، فلما حضر قال له ابن السكيت: بم تُحِبُّ أَنْ تبدأ؟ قال: بالانصراف. قال: فأقوم. قال المعتز: فأنا أخفُّ منك. وبادر فعثر فسقط وخجل، فقال يعقوب: [ الطويل ]


يَمُوتُ الفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بلِسَانِهِ

ولَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ بِالقَوْلِ تُذْهِبُ رَأسَهُ

وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَا عَلَى مَهْلِ ))([12])


وقال عبد الله بن محمد بن سالم: (( سمعت رشيدًا الخباز ـ وكان عبدًا صالِحًا، وقد رآه أبو عبيدة ـ قال: خرجتُ مع مولاي إِلَى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: يا أبا عبد الله، قدم اليوم حسن وعلي ابنا صالح. قال: وأين هما؟ قال: في الطواف. قال: إذا مرَّا فأرنيهما. فمر أحدهما فقلت: هذا علي، ومر الآخر فقلت: هذا حسن. فقال: أما الأول، فصاحب آخرة، وأما الآخر فصاحب سيف، لا يملأ جوفه شيء. قال: فيقوم إليه رجل ممن كان معنا. فأخبر عليًّا، ثم مضى مولاي إلى علي يُسلم عليه، وجاء سفيان يُسلم عليه، فقال له علي: يا أبا عبد الله، ما حملك على أن ذكرت أخي أمس بما ذكرته؟! ما يؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه فيقتله؟ قال: فنظرتُ إلى سفيان وهو يقول: أستغفر الله! وجادت عيناه ))([13]). [ الوافر ]


وجُرْحُ السَّيْفِ تَدْمُلُهُ فَيَبْرَى

وَيَبْقَى الدَّهْرَ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
فإنَّ النَّارَ بِالعُودَيْنِ تُذْكَى

وَإِنَّ الْحَرْبَ أوَّلُهَا كَلاَمُ


وينسب للإمام الشافعي رحمه الله أنه قال([14]): [ الكامل ]

اِحْفَظْ لِسَانَكَ أيُّهَا الإنْسَانُ

لاَ يَلْدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبَانُ
كَمْ فِي المَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ

كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَهُ الأَقْرَانُ


وقال ابن عبد البر رحمه الله (( ومن أحسن ما قيل في هذا الْمَعْنَى من النظم الْمُحكم قول نصر ابن أحمد ([15]):

لِسَانُ الْفَتَى حَتْفُ الْفَتَى حَيْنَ يَجْهَلُ

وَكُلُّ امْرِئٍ مَا بَيْنَ فَكَّيْهِ مَقْتَلُ
وَكَمْ فَاتِحٌ أَبْوَابَ شَرٍّ لِنَفْسِهِ

إِذَا لَمْ يَكُنْ قُفْلٌ عَلَى فِيهِ مُقْفَلُ




4 ـ أن كثرة الكلام إن لم يكن فيها ضرر في الدين أو الدنيا فلا تَخْلُو من ضياع الوقت بلا فائدة:

وذلك أن الكلام أربعة أقسام:

1 ـ ضرر محض.

2 ـ ضرر ومنفعة.

3 ـ لا ضرر ولا منفعة.

4 ـ نفع محض.

فالضرر المحض لا بدَّ من السكوت عنه، وكذا ما فيه ضرر ومنفعة، ولا تفي المنفعة بالضرر، وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمانٍ فيما لا يعني ))([16]).

(( قال بشر الحافي: كان الْمُعَافى صاحبَ دنيا واسعةٍ وضياع كثيرة، قال مرَّةً رجلٌ: ما أشدَّ البردَ اليوم، فالتفت إليه الْمُعَافى، وقال: استدفأتَ الآن؟ لو سَكَتَّ، لكان خيرًا لك !.

قُلْتُ ([17]): قولُ مثلِ هذا جائزٌ، لكنهم كانوا يكرهون فُضُول الكلام، واختلف العلماء في الكلام المباح، هل يكتُبه الملَكان، أم لا يكتُبان إِلَّا الْمُسْتَحَبَّ الذي فيه أجرٌ، والْمَذْمومَ الذي فيه تَبِعَة؟ والصحيحُ كتابةُ الجميعِ لعموم النصِّ في قوله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18] ثم ليس إلى الملكين اطِّلَاعٌ على النِّياتِ والإخلاص، بل يكتُبانِ النُّطْق، وأما السرائرُ الباعثةُ للنُّطقِ، فالله يتولاها ))([18]) .

وروى الثوري، عن رجل، عن أبيه قال: ((جالستُ الربيع بن خيثم سنين، فما سألني عن شيء مما فيه الناس إلاَّ أنه قال لي مَرَّة: أُمُّك حيَّة! ))([19]).

((وقد قال الإمام الشافعي: [ الطويل ]

وَإِنَّا لَفِي الدُّنْيَا كَرَاكِبِ لُجَّةٍ

نظُنُّ قعوداً والزَّمانُ بنا يسري
أليسَ مِنَ الخُسْرَانِ أنَّ لَياليًا

تَمُرُّ بِلَا نَفْعٍ وتُحسب مِنْ عُمرِي


لذا انتبه العقلاء لهذه الحقيقة، فأصبحوا يندمون على الدقيقة، وإليك أمثلة من ذلك:

قال رجل لعامر بن قيس: قفِ أُكلمك، فقال: فأمسك الشمس.

وأطال قوم الجلوسَ عند معروف الكرخي، فقال: أما تريدون أن تقوموا؟! إنَّ مَلَكَ الشمس لا يَفْتُرُ عَنْ سَوْقِهَا ([20]).

وقالت داية داود الطائي: يا أبا سليمان أَمَا تشتهي الخبز؟ قال: يا داية بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية ([21]).

(( وفي صحف إبراهيم: وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مُقْبِلًا على شانه، حافظًا للسانه.

وعن معروف الكرخي: من اشتغل بِمَا لَا يعنيه فاته ما يعنيه.

وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِي: من علامات إِعْرَاضِ الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ))([22]).

وقال ابن الجوزي رحمه الله : (( أعوذ بالله من صُحبةِ البطَّالين! لقد رأيت خلقًا كثيرًا يُجْرونَ معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد: خدمة! ويطيلون الجلوس، ويُجْرون فيه أحاديثَ الناس وما لا يَعْنِي، ويتخلله غِيبة. وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه الْمَزُور، وتشوَّق إليه، واستَوْحَشَ من الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يَمْشِي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الْهَناءِ والسَّلَامِ، بَلْ يَمزِجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان! .

فلما رأيت أن الزمان أشرَف شيء، والواجب انْتِهَابُه بفعل الخير، كَرِهْتُ ذلك وبقِيتُ معهم بين أمرين: إِنْ أَنْكَرتُ عليهم وقَعتْ وحشة لموضع قطع المألوف!، وإن تَقَبَّلْتُه منهم ضاع الزمان! فصرتُ أدافعُ اللقاء جهدي، فإذا غُلِبتُ قَصَّرتُ في الكلام لأتعجَّل الفراق. ثم أعددتُ أعمالًا لَا تَمْنَع من الْمُحَادثة، لأَوْقَاتِ لِقَائِهِمْ، لِئَلَّا يَمْضِي الزَّمَانُ فَارِغًا، فجعلتُ من الاستعداد للقائهم قَطْعَ الكاغد ـ أي قصَّ الورق ـ وبَرْيَ الأقلام، وحَزْمَ الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي.

نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شَرَفَ أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه.

ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون مَعْنَى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة مَالِهِ، فهو يقعد في السوق أكثرَ النهار ينظُرُ إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر، ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج، ومنهم من يقطع الزمان بحكاية الحوادث عن السلاطين والغَلاءِ والرُّخْصِ إلى غير ذلك، فعلمتُ أن الله تعالى لم يُطْلع على شرف العمر ومعرفةِ قدرِ أوقاتِ العافية إِلَّا من وفَّقه وألهمه اغتنام ذلك {وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم} [فصلت: 35]([23]).

هذا؛ (( واعلم أن للكلام شروطًا لا يسلم الْمُتَكَلِّمُ مِنَ الزَّلَلِ إِلَّا بِهَا، وَلَا يَعْرى من النقص إِلَّا بعد أن يستوفيها، وهي أربعة:

فالشرط الأول: أن يكون الكلامُ لداعٍ يدعو إليه، إمَّا في اجتلاب نَفْعٍ، أو دَفْعِ ضرر.

والشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخَّى به إِصَابة فرصته.

والشرط الثالث: أن يقتصر منه على قدر حاجته.

والشرط الرابع: أن يتخيَّر اللفظ الذي يتكلَّم به.

فهذه أربعة شروط، مَتَى أخلَّ الْمُتَكَلِّمُ بِشَرْطٍ مِنْهُ فَقَدْ أَوْهَنَ فَضِيلَةَ بَاقِيْهَا ))([24]).



* * *

كتبه

محمد بن سليمان مال الله

20/2/2010م


 
التعديل الأخير تم بواسطة سلطانة الاحزان ; 10-06-2010 الساعة 04:06 AM

رد مع اقتباس