عرض مشاركة واحدة
قديم 10-28-2010, 01:28 AM   #1
[كبآر الشخصيآت في المنتدى]


الصورة الرمزية ابوعبدالعزيز
ابوعبدالعزيز غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 93
 تاريخ التسجيل :  Jun 2009
 أخر زيارة : 11-27-2012 (12:23 PM)
 المشاركات : 177 [ + ]
 التقييم :  309736438
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي تابع نهاية أسرائيل وامريكا



تاريخ وجغرافيا بني إسرائيل في القران
بعد مراجعتي لمعظم الآيات القرآنية ، التي تحكي سيرة بني إسرائيل ، تبيّن لي الكثير من الوقائع المبهمة في تاريخهم ، والمفاهيم المغلوطة ، التي كنت أحملها ويحملها عامة المسلمين ، والتي سيرد تفصيلها في هذا الفصل إن شاء الله . كنت سأقتصر بحثي في تاريخ بني إسرائيل ، لإثبات تحقق وعد المرة الأولى من علو وإفساد وعقاب ، ولكن تبين لي من خلال الأحاديث العامة ، وعند طرحي لموضوع هذا البحث ، أن كثيرا من الناس ، يجهلون تاريخ بني إسرائيل ، وخاصة ماهيّة الأحداث التي حصلت معهم ، وموقعها من حيث الزمان والمكان ، والتي ذُكرت متفرقة في القرآن ، وبلا ترتيب في أغلب الأحيان ، ويجهلون أيضا حتى ترتيب أنبياء بني إسرائيل وتعاقبهم ، لذلك اضطررت لتعقب تاريخهم منذ البداية ، لما فيه من فائدة .
إبراهيم عليه السلام

حسبما ورد عن أهل الكتاب ، أن إبراهيم عليه السلام ، كان مقيما في بلدة أور في جنوب العراق ، ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24 العنكبوت ) ، ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26 العنكبوت ) ، ( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71 الأنبياء ) ومن ثم انتقل إبراهيم ولوط عليهما السلام ، وهو الوحيد الذي آمن له من قومه ، إلى فلسطين .
وسكن لوط عليه السلام قرية ( سدوم وعمورة ) حسب تسمية التوراة ، في موضع البحر الميت حاليا ، واستمر إبراهيم عليه السلام على الأرجح ، إلى المدينة المسمّاة باسمه لغاية الآن – وهي الخليل جنوبي القدس - وسكن فيها ، وظاهر النص القرآني ، يفيد بأنهما لم يكونا متزوجين ، ولو كانا متزوجين ، لذُكِرَ أهلهما عند النجاة ، كما اقترن ذِكْر الأهل مع الأنبياء ، في كل من حالات النجاة والهجرة ، التي وردت في القران ، كما في الآية ( وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76 الأنبياء ) ، والآية ( قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًالَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ (32 العنكبوت ) ، والآية ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ (29 القصص ) ليفيد ذلك أنهما هاجرا منفردين وفي مقتبل العمر ، وأن الزواج حصل بعد الإقامة ، وعلى الأرجح ، من نفس الأقوام التي دخلوا عليها وعايشوهاكأفراد ، والله أعلم .
قال تعالى على لسان إبراهيم ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لي عَلَى الْكِبَرِ ، إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39 إبراهيم ) ، ومرت سنون طويلة ، وبعد أن تقدم إبراهيم عليه السلام في العمر ، وهبه الله جلّ وعلا إسماعيل أولا من هاجر ، فأسكنه وأمه في مكة ، ومن ثم رُزِقَ بإسحاق في شيخوخته ، من سارة التي أصبحت عجوزا ، ومن ثم وُلِدَ يعقوب لإسحاق عليهما السلام ، قال تعالى ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72 هود ) .
مسألة بناء البيت الحرام والمسجد الأقصى :

قال تعالى ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96 آل عمران ) .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : ( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ، قُلْتُ : كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ ، ثُمَّ قَالَ : حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ ، وَالْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ ) رواه البخاري ، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد . جاء في شرح السندي ، لنفس المتن عند ابن ماجة ، ما نصه : " قوله ( وُضِعَ أول ) بالبناء على الضمة ، ( قال أربعون عاما ) قالوا : ليس المراد بناء إبراهيم للمسجد الحرام ، وبناء سليمان للمسجد الأقصى ، فإن بينهما مدة طويلة بلا ريب ، بل المراد بناؤها قبل هذين البناءين ، والله أعلم " .

ومن معاني ( الوضع ) ، في لسان العرب " والمواضع معروفة ، وواحدها موضع ، والموضع هو اسم المكان ، وفي الحديث : " ينزل عيسى بن مريم فيَضَعُ الجزية " ، فتوضع الجزية وتسقط ، وفي الحديث : " و يَضَعُ العلم " أي يهدمه ويلصقه بالأرض ، ووَضَعَ الشيء وَضْعَاً أي اختلقه وأوجده ، ووضع الشيء في المكان ، أثبته فيه " .
ولم تأتِ ( وُضِعَ ) بأي حال من الأحوال بمعنى ( بُنِيَ ) ، وذلك يفيد بأن الوضع كان للقواعد فقط . وقد رُوي أن آدم عليه السلام ، هو أول من بنى الكعبة ، واتخذت مكاناً لعبادة الله ، ومن ثم تحول الموضع لعبادة الأصنام ، وأزيلت معالم ذلك البناء ، بفعل الطوفان زمن نوح عليه السلام ، واختفت هذه القواعد نتيجة تراكم الأتربة ، على مرّ السنين . وإعراب ( وُضِعَ ) في كلا الموضعين ، هو فعل ماضٍ مبني للمجهول ، أي أن فاعل الوضع غير معلوم في النص ، وجاءت بمعنى تعيين وتحديد مكان البيت ، وهناك روايات بأن الملائكة كشفت لآدم عن موضعه ، عندما بناه لأول مرة . وبلغة مسّاحي الأراضي ، نستطيع القول أن ( وُضع ) ، جاءت بمعنى تحديد وإسقاط إحداثيات الموقع على الأرض ، وتثبيت حدوده .

ولا يختلف اثنان ، على أن من أعاد بناء البيت الحرام ، هما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، بدلالة قوله تعالى ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26 الحج ) ، بوّأنا أي كشفنا وأظهرنا له موضعه ومكنّاه منه وأذنا له في بنائه ، ومن ثم كان البناء برفعه فوق القواعد ، في قوله ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ (127 البقرة ) ، والغاية من بناءه هو جعله مكانا للعبادة ، بما تشمله من طواف وقيام وركوع وسجود ، لمن يستجيبوا لرسالة الإسلام ، كما ورد في الآية أعلاه ، التي كان يحملها إسماعيل عليه السلام ، المقيم في ذلك المكان ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54 مريم ) .

يعقوب ويوسف عليهما السلام

قال تعالى ( وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58 مريم ) ، ويعقوب عليه السلام هو إسرائيل ، والمقصود ببني إسرائيل ، هم نسل يعقوب عليه السلام ، وحسب ما ترويه التوراة ، أنه ترك مقام أبيه إسحاق في فلسطين ، وهاجر إلى خاله في العراق ، ورعى عنده الغنم عدة سنين ، وتزوج اثنتين من بناته ، وعاد إلى فلسطين مرة أخرى ، وقد رُزق عليه السلام باثني عشر ابنا ، وأبرزهم يوسف عليه السلام ، في قوله تعالى ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4 يوسف ) ، وقوله ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا (100 يوسف ) . أي أجلس أبوه وأمه إلى جواره ، احتراما وتقديرا وتوقيرا ، ومن ثم سجد له أخوته الأحد عشر ، دون أبويه ، ففي الأية (4) كانت الرؤيا الأولى ، للأحد عشر كوكبا والشمس والقمر ، ومن ثم كانت الرؤيا الثانية ، لسجود الأحد عشر كوكبا ، دون الشمس والقمر ، وهذا ما تؤكده الأية ( 100 ) ، حيث رُفع الأبوين إلى العرش ، ومن ثم وقع السجود من الأخوة .
أما مكان سكنى يعقوب عليه السلام ، ومن قوله تعالى على لسان يوسف ( وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ (100 يوسف )، يتبين لنا أنهم كانوا قد سكنوا الصحراء ، وعاشوا حياة البداوة ، ومن المعروف أن مهنة البدو ، هي تربية المواشي ، وتبادل منتجاتها مع أهل الحضر ، ومن قوله على لسان أخوة يوسف أيضا ( وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82 يوسف ) والقرية ، هي مكان تواجد يوسف عليه السلام في مصر ، حيث تركوا الأخ الشقيق ليوسف ، وقولهم هذا وتردّدهم لأكثر من مرة على مصر ، يدل على قربهم منها ، وقولهم ( وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) يدل أنهم ذهبوا إلى مصر ورجعوا في قافلة ، وأفرادها يقطنون معهم أو بالقرب منهم . والأرجح أن تكون هذه الصحراء ، التي كانوا يقيمون فيها قريبة إلى مصر ، وربما تكون صحراء النقب ، جنوب فلسطين ، وفي منطقة بئر السبع بالذات ، حيث سكنى بدو فلسطين ، وهو الأرجح والله أعلم .
الانتقال إلى مصر :

وبعد أن تبوّأ يوسف عليه السلام في مصر منصبا ، يوازي منصب وزير الخزينة ، أو المالية في عصرنا الحالي ، لدى فرعون مصر ، انتقل يعقوب وبنوه ، للحاق به في مصر ،قال تعالى ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)(100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ … (101 يوسف ) ، ودخلوها معزّزين مكرّمين آمنين ، وقوله ( آمنين ) يوحي بأن ليس كل من دخل مصر آنذاك ، ليقيم فيه من الغرباء والدخلاء ، سيكون آمنا على نفسه ، من الاضطهاد والاستعباد .
بعض مظاهر الحكم المصري :

قصة يوسف عليه السلام أشهر من أن تعرّف ، لذلك سنوردها باختصار ، ونركّز على بعض ما خفي منها . حيث كانت مصر آنذاك إحدى كُبريات الممالك القديمة ، بدلالة قوله تعالى ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (54 يوسف ) ، وعلى لسان مؤمن آل فرعون ( يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ (29 غافر ) ، ونظام الحكم فيها ملكي وراثي ، وكلمة فرعون ربما تكون اسم أو لقب للملك ، ويقال أن الفراعنة لم يكونوا ملوك مصر ، في زمن يوسف عليه السلام ، فسواء كان هذا أو ذاك ، فنحن نصف الأوضاع في مصر بشكل عام .
حيث يبدو أن المجتمع المصري ، كان يتألّف من أربع طبقات :-
الطبقة الأولى : العائلة الملكية ، التي هي في مصاف الآلهة من حيث الحقوق والامتيازات .
الطبقة الثانية : الأشراف من المصريين ، الموكل إليهم الأعمال التنفيذية ، ويتمتعون بامتيازات استثنائية ، من وزراء وما شابه ، وهم علية القوم وسماهم سبحانه ملأ فرعون ، في قوله ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (88 يونس ) . ومنهم العزيز صاحب يوسف عليه السلام ، وهامان الذي كان يشغل ما يشبه ، منصب رئيس الوزراء في عصرنا هذا ، قال تعالى ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36 غافر ) .
وانضوى يوسف عليه السلام ضمن هذه الطبقة ، مع أنه كان من الغرباء ، كونهم كانوا بأمسّ الحاجة لعلمه وحكمته ، لإدارة شؤون البلاد الاقتصادية ، في سنين الجفاف ، ، لا لشيء آخر . بعد أن أصبح عليه السلام من المقربين للملك ، ( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54 يوسف ) حيث كان عبدا مملوكا لذلك العزيز ، الذي قال عنه يوسف عليه السلام ، عندما رُووِدَ عن نفسه للوقوع في الزنا ، بزوجة من أكرمه وأحسن مقامه : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23 يوسف ) أي لن أظلم نفسي بمعصية الله ، ولن أظلم زوجك بنكران معروفه معي ، إذ قال لها زوجها عند شراءه ( وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا (21 يوسف ) ، ولفظ ربّ في الآية السابقة جاء بمعنى صاحب أو مالك ، ولفظ العزيز هو لقب يُطلق على الأشراف ، ذوي المناصب الرفيعة ، وقد خُوطب به يوسف عليه السلام ، من قِبَل أخوته في الآية (88) . ويبدو أن المجتمع المصري كان منغلقا على نفسه ، ولا يخالط الغرباء من منظور الفوقية والاستعلاء ، ويخاف الغرباء ويخشاهم وبالتالي كان ينبذهم .
والطبقة الثالثة : عامة المصريين وهم يعملون بالوظائف العامة والخاصة ، وامتيازاتهم عادية ، وشملت هذه الطبقة نسبيا بني إسرائيل ، في زمن يوسف عليه السلام .
والطبقة الرابعة : العبيد عن طريق الشراء وما شابه ، وأغلبهم من غير المصريين ، بلا حقوق وبلا امتيازات ، بل على العكس ليس لهم إلا المهانة والازدراء ، ويعملون بقوتهم اليومي في الزراعة والبناء والخدمة ، ومن ضمنها صاحبيّ السجن ، وشملت بني إسرائيل ، بعد يوسف عليه السلام ، حتى زمن موسى عليه السلام . والمخطئ من هؤلاء العبيد في حق المصريين ، كان مصيره السجن أو العذاب الشديد أو القتل ، وبدون محاكمة على الأرجح ، وخاصة إذا كان خصمه مصريا ، حتى ولو أُتهم زورا وبهتانا .
وأما الموقع الجغرافي لعاصمة الملك ، وبدلالة هذه الآيات ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51 الزخرف ) ، ( وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ (24)كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27 الدخان ) ، فهو يقع على مجرى نهر النيل ، في أخصب الأراضي المصرية ، أما سكنى فرعون وآله ( أي عائلته ) كانت خارج المدينة ، بمعزل عن الشعب ، وقصره مقام على ضفاف النيل .
هل كان يوسف داعية إلى الله في مصر ؟ نقول نعم ، وقد بدأ الدعوة في السجن ، عندما قال لصاحبيّ السجن ( يَصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ، مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ، إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40 يوسف ) ، واستمرت دعوته حتى مماته ، قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ ، فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ، كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34 غافر )وهو يعني أهل مصر ، وكان يوسف عليه السلام ، يدعوا إلى الله تعالى بالقسط ، فما أطاعوه تلك الطاعة ، إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ، ولهذا قال مؤمن آل فرعون : ( فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك ، قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ) ، وطال الأمد بقوم فرعون وببني إسرائيل ، فضلّوا إلا قليلا ، وكان منهم مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه ، وعلى لسانه جاءت هذه الآية ، ومنهم أيضا أهل موسى عليه السلام .
أحوال بني إسرائيل في مصر بعد وفاة يوسف عليه السلام وحتى خروجهم منها :

بعد زوال سندهم لدى فرعون ، أصبح حالهم حال العبيد . وربما يكون ذلك في زمن فرعون نفسه ، أو من مَلَك بعده ، بعد وفاة يوسف عليه السلام ، لزوال المصلحة والنفع الذي تأتّى من علم يوسف ، وحكمته في الإدارة والاقتصاد . واستمر حالهم كذلك حتى خروجهم مع موسى عليه السلام ، وحسب ما يُروى أن المدة ، ما بين دخولهم إلى مصر ، وخروجهم منها هي أربعمائة سنة ، والله أعلم ، وحالهم في تلك الفترة الزمنية ، يصفه القرآن بما يلي : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4 القصص ) ، ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49 البقرة ) ، ( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30 الدخان ) ، وازداد العذاب والاضطهاد لهم ، ببعث موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه .
موسى عليه السلام

والحكمة الإلهية التي أرادها الله من بعث موسى عليه السلام ، هي ما ابتدر به رب العزة سورة القصص ، بقوله ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ علَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ ، مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6 القصص ) والقصة بتمامها ، مفصلة في سورة القصص وسورة طه ، وقصة موسى معروفة ومألوفة لدينا ، حيث وُلد عليه السلام ، وألقته أمه في النيل ، خوفا من ذبحه ، فالتقطه آل فرعون ، واعتنوا به . حتى إذا بلغ أشدّه ، قتل مصريا ، فأتمر به ملأ فرعون ، فغادر مصر متجها إلى مدين ، ولم يكن قد لقي بلاء قبل ذلك ، فقد كان ربيبا منعمّا في آل فرعون ، ولم يكن عليه السلام ، قد أُوحيَ إليه بعد ، وإنما كان مسلما ، على دين آبائه إبراهيم إسحاق ويعقوب عليهم السلام .
الموقع الجغرافي لمَدْيَن :

قيل فيها في المعاجم : أنها تقع " قرب بحر القلزم ( البحر الأحمر ) محاذية لتبوك ، وتقع بين وادي القرى والشام ، وقيل اتجاه تبوك بين المدينة والشام ، وقيل هي كفر سندة من أعمال طبرية ، وقيل بلد بالشام معلوم تلقاء غزة ، وفي ( البداية والنهاية ) : " كان أهل مدين قوما عربا ، ومدين هي قرية من أرض معان ، من أطراف الشام ، مما يلي ناحية الحجاز ، قريبا من بحيرة قوم لوط ، وكانوا بعد قوم لوط بمدة قريبة " .
والقول الأخير هو أفضل ما قيل فيها ، وهو الأرجح فهي تقع شرقيّ نهر الأردن ، في السفح المطل على فلسطين ، قبالة أريحا ، حيث المكان المسمى بوادي شعيب حاليا ، والذي يقع فيه مقام النبي شعيب عليه السلام ، في جبال محافظة البلقاء الأردنية ، وهي أرض خصبة تصلح لزراعة القثائيّات ، وفيها الأشجار المثمرة ، وعيون الماء ، ويؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى ، على لسان شعيب مخاطبا قومه ( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89 هود ) ، والمقصود هنا البعد المكاني ، حيث المسافة بين قرية شعيب والبحر الميت ( بحيرة لوط ) ، لا تتجاوز (20) كم ، أما البعد الزماني بين لوط وشعيب ، فيُقدّر بمئات السنين ، حيث أن لوط عاصر إبراهيم ، وشعيب عاصر موسى عليهم السلام .
وكما ورد في الروايات ، كان أهل مدين ، يقطعون السبيل ويخيفون المارة ، وهم أصحاب الأيكة أي الأشجار الملتفة والمتشابكة - وهي صفة موجودة أيضا في تلك المنطقة - وكانوا من أسوء الناس معاملة ، يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما ، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص ، فآمن بشعيب بعضهم وكفر أكثرهم ، ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189 الشعراء ) ( فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91 الأعراف ) ، ولم تدمر ديارهم بل بقيت على حالها ، ويقال أن ذلك كان في يوم شديد الحر ، فبعث الله ظللا من الغمام ، في بقعة قريبة من مكان سكناهم ، فذهبوا ليستظلوا بها ، فنزل بهم العذاب ، وبقي في القرية من آمن لشعيب عليه السلام من قومه وهم قلة .
مقام موسى في مدين :

( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ … ) ، خرج موسى من مصر وحيدا ، ( قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22 القصص ) ، ولم يكن يملك من أمره ، إلا حسن ظنّه بربه عز وجل ، حتى صار إلى مدين . فلبث موسى عليه السلام ( 8-10 ) سنين في أهلها ، لقوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ … (27 القصص ) وتزوج فيها ورعى الغنم ، وتعرف إلى أهلها وعرفوه ، وعرف سهولها وجبالها ووديانها ، ( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ … ) .
العودة إلى مصر :

وبعد أن قضى المدة المطلوبة منه ، ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ (29 القصص ) غادرها مع أهله وما تحصّل عليه من أغنام ، تسيّره أقدار ربه . وكان خط مسيره ، والله أعلم ، باتجاه الجنوب ، شرقي البحر الميت باتجاه مصر ، حيث انحدر بأهله إلى وادي عربة ، جنوب البحر الميت ، فضلّ الطريق ، وهناك أتاه هاتف السماء ، لذلك قال تعالى ( … ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَمُوسَى (40 طه ) ، إلى موضع الوحي ، في الوقت المقدّر . فأوكله الله بحمل الرسالة إلى فرعون ، وأمره بالتوجه إلى مصر ، ومن هناك سار – بخط شبه مستقيم - مجتازا صحراء النقب جنوب فلسطين ، وصحراء سيناء باتجاه بوابة مصر البرية من الشرق ، ومن ثم سار جنوبا باتجاه القاهرة ، حيث إقامة فرعون وقومه .
تحديد الموقع الجغرافي ، للمكان الذي أوحي فيه ، إلى موسى عليه السلام :

نزل الوحي إلى موسى مرتين ؛ الوحي الأول : هو الذي كُلف به موسى بحمل الرسالة ، وما بعث به إلى فرعون وبني إسرائيل ، أثناء عودته إلى مصر ، بعد خروجه من مدين ، والوحي الثاني : هو الشريعة الجديدة التي كُتبت في الألواح لبني إسرائيل ، بعد خروجهم من مصر ، في الطريق إلى الأرض المقدسة ، ويعتقد الكثيرون أن الوحي نزل على موسى ، على جبل سيناء الواقع في صحراء سيناء المصرية ، وهذا غير صحيح ، حيث لم يوجد أي نص في القرآن يفيد ذلك . والواقع أن هذه تسمية الصحراء المصرية بصحراء سيناء ، استندت إلى ما جاء في التوراة ، مع أن التوراة لم تُحدّد موقع الصحراء أو الجبل .
وتذكر التوراة في سفر الخروج ، أن بني إسرائيل مروا على التوالي ، بثلاثة صحارى ، هي الواردة في النص التالي بالترتيب : " 15: 22: ثم ارتحل موسى بإسرائيل من البحر الأحمر ، وتوجّهوا نحو صحراء شور ، 27: ثم بلغوا إيليم … 16: 1: ثمّ انتقلوا من إيليم حتى أقبلوا على صحراء سين ، الواقعة بين إيليم وسيناء " .
وجاء في نص آخر : " 17: 1: وتنقل بنوا إسرائيل على مراحل ، من صحراء سين … إلى أن خيّموا في رفيديم …19: 2: فقد ارتحل الإسرائيليون من رفيديم إلى أن جاءوا إلى برية سيناء ، فنزلوا مقابل الجبل فصعد موسى للمثول أمام الله ، فناداه الرب من الجبل … 20 : ونزل الرب على قمة جبل سيناء … "
وهذه النصوص تُشير إلى أن جبل سيناء ، هو اسم الجبل الذي أُوحي بجانبه إلى موسى ، وأن برية سيناء هي تسمية ، للمكان الواقع مقابل جبل سيناء . وأن برية سيناء هي الأبعد عن مصر ، كونها كانت آخر الصحارى التي مرّوا بها ، أثناء مسيرهم ، باتجاه بوابة الأرض المقدّسة شرقي نهر الأردن ، والترجمات العربية للتوراة ، لا تُميّز بين القفر ، أي الخلاء غير المأهول بالسكّان ، وبين الصحارى الرملية القاحلة .
وجاء في التوراة " 16: 35: واقتات الإسرائيليون بالمنّ طوال أربعين سنة ، حتى جاءوا إلى تخوم أرض كنعان العامرة بالسكان " . وهذا النص الكاذب والمضلّل ، يقول أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم طيلة أربعين سنة ، قبل وصولهم إلى مشارف فلسطين ، أي قبل أن يُطلب منهم الدخول إلى الأرض المقدسة ، وقبل أن يحكم عليهم بسنوات التحريم والتيه الأربعين . والصحيح أن المنّ والسلوى كانت تنزّل عليهم خلال مسيرهم في الصحراء ، وهي مدة قصيرة ، أما سنوات التحريم والتيه الأربعين – سنوات الغضب الإلهي - فلم يكن يتنزّل عليهم شيء .
وتسمية الصحراء المصرية بسيناء ، وذكر التوراة أن بني إسرائيل عاشوا فيها أربعين سنة يأكلون المن والسلوى . ضلّلت حتى اليهود أنفسهم ، الذين بحثوا ونقبوا فيها طويلا ، عن أي أثر لمقامهم فيها ، ولكن دون جدوى ، مما اضطر بعض الباحثين اليهود مؤخرا ، إلى تكذيب معظم روايات التوراة ، ونشر الكثير من آرائهم ونتائج أبحاثهم في الصحف .
أما كلمة الطور فقد وردت في القرآن (10) مرات ، (8) منها بلفظ ( الطور ) معرّفة بأل التعريف ، بمعنى الجبل ، وواحدة بلفظ ( طور سيناء ) ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20 المؤمنون ) ، وواحدة بلفظ ( طور سينين ) بنفس المعنى السابق ، ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2 التين ) . وسيناء وسنين لغة ، إذا لم تمنع من الصرف ، أي لحقها التنوين جرّاً ونصباً ، فإنها تعني كثرة الشجر ، وإذا مُنعت من الصرف ، كما هو الحال هنا فهي اسم ، والكلمات ( طور وسيناء وسينين ) ألفاظ أعجمية ، ومما تقدم نستطيع القول بأن ( طور سيناء ) اسم لجبل معروف لبني إسرائيل ، بمعنى ( جبل الغابة ) ، وهو في الحقيقة ، اسم الجبل الذي أوحيَ بجانبه إلى موسى ، حسب تسمية التوراة له ، وقد عُرّف هذا الجبل من خلال القرآن ، بأنه يُنبت التين والزيتون . والمقصود بكلمة ( الطور ) المعرّفة بألف ولام ، أينما جاءت في القرآن ، هو طور سيناء أو سينين ، والطور هو سلسلة جبال فلسطين ، التي تربض على تلالها مدينة القدس ، والتي هي في الأصل جبل واحد ، يمتد من مدينة نابلس شمالا إلى مدينة الخليل جنوبا .
قال تعالى ( فَلَمَّا قَضَى موسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ، آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ، قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ، إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ، أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29 القصص ) قلنا أن موسى عليه السلام ، كان قد ضلّ طريقه بعد خروجه من مدين باتجاه مصر ، ، لقوله عليه السلام ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ) فوجد نفسه في أحد الأودية . ودخوله إلى الوادي كان عن طريق انحداره ، بواد فرعي جنوب البحر الميت ، وكان ذلك ليلا ، وفي طقس بارد جدا . وأثناء التخييم هناك ، كان يلتفت يمنة ويسرة ، بحثا عن الدفء والهداية ، فآنس نارا من جانب الجبل ، فاتجه إليها بعد أن استأذن أهله ، ليأتيهم بجذوة منها لأجل الدفء ، أو يجد من يرشده إلى طريقه ، ولكنه لم يجد نارا ، ولم يجد في المكان أحد .
نور لا نار :

( فَلَمَّا أَتَاهَا … ) ، أي النار ، وقف تحتها ( فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ (30 القصص ) وفي الواقع لم تكن نارا ، بل كانت نور في شجرة ، وهي الشجرة الموصوفة في قوله سبحانه ( شَجَرَةٍ ، مُبَارَكَةٍ ، زَيْتُونِةٍ ، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (35 النور ) ، وهي ( شجرة ) ، ( وزيتونة ) ، ( ومباركة ) ، أي تقع في بقعة من الأرض ، ينبت فيها شجر الزيتون ، وهي أرض مباركة ، وقوله ( لا شرقية ولا غربية ) ، أي لا في الجانب الشرقي من وادي عربة ، ولا في الجانب الغربي منه ، فهي في منتصف الوادي تقريبا ، وقوله ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) ، أي لها وهج من نور ، وليس ذلك من اشتعال نار فيها ، فهي مضيئة من تلقاء نفسها ، وقوله ( يكاد زيتها يضيء ) ، أي أن الإضاءة ناتجة عن زيت الشجرة ، فلا يكون ذلك إلا وهي مثمرة ، فالزيت يوجد في الثمر ، وتشكل الزيت في الثمر ، لا يكون إلا في بداية فصل الشتاء ، ويؤيد ذلك طلب موسى عليه السلام للدفء ، ليتأكد لنا أن دخوله إلى بطن وادي عربة ، كان في فصل الشتاء ، وأن الشجرة التي نوديَ من تحتها في الوادي المقدس ، هي نفس الشجرة الموصوفة في سورة النور ، ولا أدري لماذا يتملكني شعور قوي ، بأن هذه الشجرة قائمة في ذلك المكان إلى اليوم ، في منطقة موحشة ومقفرة وغير مأهولة ، تضيء كلما أثمرت ، في فصل الشتاء .
( فَلَمَّا أَتَاهَا ) وقف حائرا أمامها ، يتفكّر في أمرها ، حيث أنه لم يجد ما جاء يسعى إليه ، فلا نار ولا ناس يُشعلونها ، وأثناء شروده ، وفي سكون الليل ، ( نُودِي يَمُوسَى (11 طه ) ( مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ (30 القصص ) ، أي من الجانب الأيمن من الوادي ، ( مِنْ جَانبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ (52 مريم ) ، أي من الجانب الأيمن للجبل ، وليس الأيسر ، ( بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ (44 القصص ) ، أي الجبل الغربيّ ، وهذا تحديد جغرافي بالغ الدقة لمكان الوحي .
أتاه النداء باسمه ممن يعرفه ، وذلك مما آنس موسى ، ليبدّد سكون ذلك الليل الموحش ، ويقطع عليه شروده وتأمله ، ولا أخاله إلا قد أجفل عليه السلام ، ولما التفت إلى مصدر النداء ، خاطبه رب العزة قائلا ( إِنِّي أَنا رَبُّكَ ) مطمئنا إياه ومعرّفا بنفسه ، ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (12طه ) فأمره بخلع نعليه – إذ هو في حضرة ملك الملوك – ليتجه حافي القدمين ، سائرا في الجانب المقدس من الوادي ، صوب الجبل ، قال تعالى ( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا(52 مريم ) أي كان الكلام مناجاة ، والمناجاة عادة تستدعي القرب .
نحن نعلم أن الأرض المباركة والمقدّسة هي أرض فلسطين ، وبما أن الوادي الذي نزل فيه موسى واد مقدّس ، فلا بد له من يكون واقعا في الأرض المقدّسة ، وبما أن الشجرة نبتت في بقعة مباركة ، فلا بد لها من أن تكون قائمة في الأرض المباركة ، وبما أن شجرة سورة النور زيتونة مباركة ومضيئة ، فلابد لها من أن تكون هي الشجرة ، التي رآها موسى فظن نورها نارا ، في بطن وادي عربة ، والله أعلم .
وعندما اقترب موسى ، بما فيه الكفاية لبدء المناجاة ، ناجاه ربه قائلا ( وَأَنا اخْتَرْتُكَ ، فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ، وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14 طه ) فأمره بتوحيده ، وإفراده بالعبادة ، وإقامة الصلاة ، ومن ثم منحه آيتيّ العصا واليد وكلّفه بحمل الرسالة ، والذهاب لدعوة فرعون ودعوة بني إسرائيل إلى الله ، ( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24 طه) . وفي الصباح عاين موسى عليه السلام المكان ، وحفظه عن ظهر قلب ، فهو المكان الذي تغيّر فيه مجرى حياته عليه السلام ، ولم كان يعلم عليه السلام ، ما يدبّره رب العزة من أقدار ، ستأتي به إلى هذا المكان في قادم الأيام ، عند خروجه بقومه من مصر ، متجها إلى بوابة الأرض المقدسة ، حيث كان في أرض مدين .
موسى في مصر :

كنت أعتقد وربما يشاركني كثيرون أيضا ، أن مُقام موسى في مصر ، لا يتجاوز عدة أيام أو عدة أشهر على أبعد تقدير ، ولكن تبين لي أني كنت مخطئا ، فالأحداث والوقائع التي مرت مع موسى عليه السلام كثيرة ، وتحتاج إلى سنوات عديدة ، وأظنه مكث هناك ما لا يقل عن30 عاما ، يدعوا فرعون وقومه وبني إسرائيل أيضا ، ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87 يونس ) فلو تفكرت في الآية الكريمة ، لتبينت أن طلبه سبحانه ببناء البيوت ، وجعلها باتجاه بيت المقدس ، وأَمْرِه إياهم بإقامة الصلاة فيها ، ما كان إلا لطول مُقام ، ولو كان مُقامهم قصيرا أو عارضا ، لما أمرهم بذلك . والجدل بين موسى عليه السلام وفرعون ، أخذ زمنا طويلا ، بدءا باللقاء الأول الذي عرض فيه موسى رسالته ، وما أيّدها به من آيات – العصا واليد – ولقاء يوم الزينة حيث التقى موسى بالسحرة ، وبناء الصرح ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38 القصص ) .
بناء الأهرامات :

الصرح هو البناء الضخم والمرتفع ، وأعتقد أن الأهرامات الثلاثة ، هي ما أُمر هامان ببنائها ، من قبل فرعون ، لينظر إلى إله موسى . وفيما بعد اتُّخذت تلك الصروح ، مقابر ومدافن .
إذ لو فُحِصت مادة بناء الأهرامات ، لتبين أنها من الطين المشوي ، لدلالة قوله تعالى ( فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) ، إذ يخبر سبحانه – وما إعلامه لنا بذلك عبثا - بأنهم كانوا يستخدمون الطين في البناء ، وليس الحجارة كما يعتقد علماء الآثار ، الذين حاولوا جاهدين لتفسير الآلية المعقدة والمستحيلة ، في رفع تلك الصخور ذات القطع الكبير ، إلى قمة الهرم حيث لم يكن لديهم رافعات عملاقة . وهذا الخبر يكشف حقيقة ، ربما لم تخطر ببال علماء الآثار من قبل ، ويجعل كيفية البناء غاية السهولة ، حيث كان عبيد فرعون ومنهم بني إسرائيل ، ينقلون الطين – وليس الصخور والحجارة - ويضعوه في قوالب مثبتة على الهرم نفسه ، وكل لبنة في موقعها ، وينتظرون اللَبِن حتى يتماسك ، لينزعوا القوالب ، وكلما أنجزوا مرحلة ، قاموا بتثبيت القوالب مرة أخرى ، على ما تمّ إنجازه ، وبدءوا بنقل الطين ليفرغوه فيها ، وهكذا دواليك ، حتى يكتمل بناء الهرم . ومن الداخل ستجد أن قلب الهرم مفرغ ، وستجد أن هناك سراديب طويلة غير نافذة ، تتوزّع بكافة الاتجاهات ، والغاية منها توزيع الحرارة ، عند إشعال النار في قلب الهرم لشيّ الطين الجاف ، وهي عملية تحتاج إلى وقت طويل نظريا ، ولكن مع كثرة العبيد فالأمر مختلف ، والآلية بسيطة وليست معقدّة ، ولا توحي بأن الفراعنة كانوا جبابرة وأشداء ، فبناة الأهرام هم العبيد وليس الفراعنة أنفسهم ، وربما يكون شيّ الطين قد تم على مراحل ، وليس دفعة واحدة . وهذه الفكرة مطروحة للمختصّين لنفيها أو إثباتها ، وبذلك تكون الأهرامات ، رمزا من رموز الكفر والعصيان والتمرد والتحدي الفرعوني لله ورسوله ، ويكون أبو الهول هو إله المصريين القدماء ، قبل أن يُعلن فرعون ربوبيته ، تحديا لموسى عليه السلام وربه .
وبالإضافة إلى تلك الأحداث ، التي وقعت أثناء تواجد موسى في مصر ، ما وقع في قوم فرعون من البلاء الذي أنزله الله ، وكلما كشف عنهم بلاء أرسل عليهم آخر ، ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133 الأعراف ) . وستجد ما مرّ بقوم فرعون من وقائع ، أثناء تواجد موسى في مصر ، قد سُردت بإيجاز في الآيات (103 – 136) من سورة الأعراف ، والآيات (85 – 90) من سورة النمل ، ومواضع أخرى متفرقة في القرآن الكريم .
وفي نهاية المطاف ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88 يونس ) أي الغرق ، فاستجيبت دعوة موسى ، وهذا بالضبط ما حصل مع فرعون ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90 يونس ) ولو تمعنت في قوله ، لتبينت أنه لم يؤمن ، لقوله ( الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ، وأغلبية بني إسرائيل لم تكن تؤمن بالله ، ولم يقل الله أو إله موسى تكبرا وعلوا .
فمن أصرّ على المعصية وانتهاك حدود الله بكافة أشكالها ، والكفر بكافة أشكاله ، وعن علم بها وبعقوبتها ، ومنّى النفس بقول ( لا إله إلا الله ) عند الموت معلنا التوبة ، أنّه لن يوفق بقولها آنذاك ، لأن قولها يُوجب الجنة ، وهي لم تكتب لهؤلاء . ووجوب الجنة يحتاج لدفع الثمن ، وتوفير الثمن اللازم لها ، يحتاج إلى جدّ واجتهاد وصبر لا محدود ، وأن من كانت تلك الكلمة آخر عهده بالدنيا ، كُتبت له الجنة ، وما أصعب تذكّرها وقولها ، أما هؤلاء فإن تذكّروها ، تلعثموا بها فلم تؤد معناها ، فلا توبة مع إصرار ، قال تعالى ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، ذَكَرُوا اللَّهَ ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135 آل عمران ) ، وقال أيضا ( وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ ، لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ، حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ ، قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ، أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18 النساء ) .
ومعظم مسلمي هذا العصر ، إلا ما رحم ربي ، وهم قلة يُعدّون على أصابع اليد الواحدة ، في بعض البلدان المسماة بالإسلامية ، سلكوا هذا المنهج الذي حذّر منه رب العزة ، ( جماعة كل شيء بحسابه ) ، والأغلبية هم غثاء كغثاء السيل ، فلا فائدة فيهم أو تُرتجى منهم ، فإن لم يكفر أحدهم بالله أشرك في عبادته ، ومن لم يستجب ويطع ، تولى وعصى . والأوثان كثيرة هذه الأيام ، واتّخذت أشكالاً عديدة . صحيح أنها ليست من الحجر أو التمر ، ولكنها أدهى وأمرّ ، فنحن حاشى لله أن نعبد الحجارة ، وكل ما نقدّسه فقط ، كرسي ورصيد في البنك وعمارة ، وتلفزيون وستالايت وخلوي ، وشقراء أو سمراء في سيّارة . وناهيك عن المعاصي من أكل ربا ، وسرقة وخيانة وتبرج وزنا ، وقطع رحم ، وأكل لحم ، وشرب خمر ودم ، وشتم وسب وذم .
خروج موسى ببني إسرائيل من مصر :

قال تعالى ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعِبَادِي ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ، لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77 طه ) ، نتبين من ذلك أن خروج موسى بقومه إلى البحر ، كان بوحي من ربه ، وإن لم يخب ظني فقد اتجه صوب البحر الأحمر مباشرة ، أقصى الشمال من خليج السويس ، وبعد أن خرج بقومه من البحر ، اتجه شرقا وشمالا بخط شبه مستقيم ، متجاوزا صحراء سيناء وصحراء النقب ، حيث المدخل الجنوبي لوادي عربة ، وسار شمالا في بطن الوادي ، حتى الجبل المعهود جنوب البحر الميت ، ليستقبل الوحي بناءا على الموعد المسبق ، الذي ضرب بينه وبين ربه ، بعد النجاة من فرعون وقومه ، قال تعالى ( يَبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ (80 طه ) ، وهذه الآية تدل على عدم مكوثهم لفترة طويلة ، في أي من صحراء سيناء أو النقب ، وأن وجهتهم كانت حيث المكان الموعود ، وكان موسى يستعجل المسير وهم يبطئون ، وبعد تلقيه الوحي ، وما كان منهم معاصي في بطن الوادي ، صعد بقومه إلى المرتفعات الشرقية ، ودخل الأردن عن طريق الوادي الذي نزل به في المرة السابقة ، ملتفا حول مملكة الآدوميين ومملكة الموآبيين شرقي البحر الميت ، ليصل إلى مكان إقامته السابق ، حيث كان سفيرا لبني إسرائيل – ولم يكن يعلم بذلك آنذاك - في مدين قرية شعيب عليه السلام ، ليُمَهّد لهم طيب الإقامة فيها مستقبلا .
ترتيب الأحداث التي مرت بموسى وبني إسرائيل خلال تلك الرحلة الطويلة

الصاعقة والبعث بعد الموت :

رحلته مع بني إسرائيل ، في طريق العودة إلى مدين ، اختلفت كثيرا عن سابقتها ، فقد كانت ترافقه في هذه الرحلة أمّة بأسرها ، بما لها وما عليها ، وأكثرها من غير المؤمنين ، وغير المطيعين لله تعالى وله عليه السلام ، فكان المسير فيها بطيئا وشاقا وطويلا ، قال تعالى ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ (83 يونس ) ، وقال أيضا ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى ، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ، حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ ، وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56 البقرة ) ، وكان قولهم هذا فور نجاتهم وخروجهم من البحر ، بعدما رأوا كل ما أجراه الله ، على يد موسى من معجزات ، تلين لها قلوب الجبال وعقولها ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، ولو نظرت إلى قولهم في الآية السابقة ، واستخدام أداة الجزم والتأبيد ( لن ) ، تجد أن لديهم إصرار عجيب على الكفر ، بما هو غيبيّ ومحجوب عن حواسّهم ، رغم مشاهدتهم للآيات والآثار الدالة على وجوده ، وأنهم لا يؤمنون إلا بما تدركه الحواس من أشياء مادية ، وهذا ما جعلهم يقعون في فتنة العجل الذهبي بعد هذه الحادثة ، وفي فتنة الدجال مستقبلا ، بما لديه من فتن مادية ظاهرة للعيان ، ( فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ، ثُمَّ ، اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ ، فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153 النساء ) ، وقد وقع هذا منهم ، قبل اتخاذهم للعجل .
تفجير الماء ونزول المنّ والسلوى والتظليل بالسحاب أثناء المسير :

وبناءً على ما سبق ، كان خط مسير الرحلة في معظمه في صحاري قاحلة ، وكل ما كان بحوزتهم من طعام وماء أثناء الخروج ، كانوا قد استنفدوه في أيامهم الأولى ، قال تعالى ( وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ، وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ ، وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160الأعراف ) ، ومن هذه الآية الكريمة ، نجد أنهم قُسّموا إلى (12) جماعة ، لتيسير عمليّه القيادة ، ومنّ عليهم ربهم ، سبحانه عما يصفون ، بأن وفّر لهم كل أسباب الراحة ، من ماء وغذاء ، وحتى أنه وقاهم من حر الشمس ، بأن جعل السحاب يظللهم ، أينما حلوا وأينما ارتحلوا ، أثناء مسيرهم باتجاه الأرض المُقدّسة ، وفي تلك الأثناء مرّوا على عبدة الأصنام ، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم ألهة كما لهؤلاء ألهة ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ، فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ، قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ، قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138 الأعراف ) .
ولا يغب عن بالنا ، أن رحلة كهذه ، كانت تستوجب ما بين فترة وأخرى ، التخييم والإقامة لبعض الوقت ، ومن ثم متابعة المسير ، وهكذا دواليك ، ولم تتعدى مدد الإقامة في أي من مراحل المسير ، سوى أيام أو أسابيع معدودة ، فهم لم يركنوا إلى مكان معين ، إذ كان هناك مواعدة للقاء في جانب الطور الأيمن ، في وادي عربة ، وكانت هذه المواعدة جماعية لموسى ولبني إسرائيل ، ولكنّ موسى عليه السلام ، وبعد أن قطع شوطا كبيرا في وادي عربة ، استعجل اللقاء ، وعندما اقترب من المكان المحدد ، استخلف أخيه هارون في قومه ، وتركهم ومضى مسرعا رغبةً منه في إرضاء ربه ، واعتذارا عن التأخير الذي تسبّب به قومه ، من جرّاء مماطلتهم وتذّمرهم .
اللقاء الأول لموسى بربه بعد الخروج من مصر ، واتخاذ العجل في بطن وادي عربة :

قال تعالى ( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَمُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) وهناك كان موسى عليه السلام ، مشتاقا ومندفعا فطلب رؤية ربه ، وكأنه نسي ما كان من قومه ، فطلب من ربه ما طلبه قومه منه ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ، قَالَ لَنْ تَرَانِي ، وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ، فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ، وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143 الأعراف ) فصُعق موسى كما صُعق قومه من قبل ، وبعدما أفاق ، أُعطيت له الألواح ، التي تحمل في ثناياها الشريعة الجديدة لبني إسرائيل ، ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145 الأعراف ) .
ومن ثم ، أخبره ربه بأن قومه فُتنوا من بعده ، بعبادتهم للعجل الذهبي الذي ابتدعه السامري ، ( قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ (85 طه ) ، وكانت عقوبة الشرك بالله غاية في القسوة ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ، يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ ، فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54 البقرة ) ، وتوحي هذه الآية بأن الأمر كان مُلزما ، وقبول التوبة كان مشروطا بقتل النفس ، فمن رغب في التوبة آنذاك ممن عبدوا العجل ، قتل نفسه حقيقة وقُبلت توبته ، ومن لم يقتل نفسه ، قال فيهم سبحانه ، ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152 الأعراف ) .
وبالنظر في قوله تعالى ، على لسان موسى مخاطبا السامريّ ( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97 طه ) ، نجد أن العجل الذهبي ، قد حُرّق ورُمي في البحر ، وأقرب بحر لمقام بني إسرائيل في وادي عربة ، هو البحر الميت .
اللقاء الثاني والرجفة ونتق الجبل :

وبناءً على ما كان منهم ، اختار موسى (70) رجلا من أفضلهم ، للاعتذار عما فعله السفهاء من قومه ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ ، قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ، أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155 الأعراف ) فشهدوا الوحي بمعية موسى عليه السلام دون سماعه ، وشعروا بوجود خالقهم وقدرته ، ومقدار حنقه وغضبه عليهم ، بأن زلزل الأرض من تحت أرجلهم .
أخذ الميثاق ، وإلزام النقباء الاثنيّ عشر بالسهر على تطبيقه ، والحكم بما جاء فيه :

وهناك عُرض عليهم الميثاق ليلتزموا به ، ويلزموا أتباعهم على القيام به ، ويتحملوا مسؤولية نقضه ، فتردّدوا وأبَوْا ، فرفع سبحانه فوقهم الجبل ، وأجبرهم على أخذه بالقوة ، ولو أصرّوا على الرفض لأطبقه عليهم ، فقبلوه على مضض ، وكان الله أعلم بما يعتمل في صدورهم ، ولكنه غفور رحيم ، حيث قال فيهم ، ( وَإِذْ أَخَذْنَا ميثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ، قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (93 البقرة ) . فاختير من السبعين رجلا (12) نقيبا ، بعدد الأسباط ( أي قبائل بني إسرائيل ) وهم الذين تُسميهم التوراة بالقضاة . وهذا نص الميثاق الذي أُلزموا بالعمل على تطبيقه ، بالإضافة إلى الوصايا الواردة في سورة الأنعام ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ، لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ ، وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ، وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ ، فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12 المائدة ) .
رفض المن والسلوى وطلب القثائيات ، والحكم عليهم بالنزول في موطن زراعتها :

كانت مدة المكث بادئ الأمر في الصحراء بسيطة ، وذلك لتذمّرهم وعدم صبرهم على طعام واحد ، أي المنّ والسلوى ، فحكم عليهم سبحانه بإكمال المسير ، المقدّر مسبقا ، بقوله على لسان موسى ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا ، فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ (61 البقرة ) ، وحيث أنه قال ( مِصْراً ) منونةً ، ولم يقل ( مِصْرَ ) بدون تنوين ، فهي غير مصر التي خرجوا منها ، وإنما جاءت هنا بمعنى ( بلداً ) نكرة وغير معرّفة ، وقوله ( فإنّ لكم ما سألتم ) تعني أن هذا البلد يتميّز ، بأن فيه ما سأله بني إسرائيل من نبيهم ، من عدس وبصل وغيره ، ولو تساءلنا عن موقع هذا البلد ، القريب من الأرض المقدسة ، الذي يتميز بخصوبة أراضيه ، ووفرة مياهه من ينابيع وآبار ، ويصلح لزراعة القثّائيات ، بالتأكيد ستكون الإجابة الأرض الواقعة ، شرق نهر الأردن ، وفي السفوح الغربية للجبال المطلة على فلسطين ، وبالتحديد قرية مدين التي يعرفها موسى ، ويعرف ميّزاتها وخصائصها ، والله أعلم ، والتي كان أهلها قد هلكوا بعذاب يوم الظلّة ، قبل أو بعد خروج موسى منها ، ليرثها بنوا إسرائيل مع القلة المؤمنة ، من قوم شعيب التي نجت من العذاب .
دخول مدين والمُقام فيها :

قال تعالى ( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58 البقرة ) ، وقال في آية أخرى ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162 الأعراف ) ، ولم يكن المقصود بهذه القرية ، الأرض المقدسة ، كونهم دخلوها حربا ، بعد موسى عليه السلام بأربعين عاما على الأقل ، وهذه القرية سُكنت حقيقة ، بدخولها بلا قتال بمعية موسى عليه السلام ، وقد بدّل الذين ظلموا منهم –أي العُصاة – القول والهيئة عند الدخول ، فأرسل عليهم سبحانه رجزا من السماء .
وقوله قبل الدخول ( وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ ) و قوله لهم في النص الآخر ( فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ) يوحي بأنها سكنى مؤقتة ، ولم يكن لديهم علم ، بأنه سيكون هناك ما بعدها ، وهو الاستعداد والتهيئة لدخول الأرض المقدسة ، فأفشلوا أنفسهم في الدخول الأول لتلك القرية ، فاستحقوا غضب الله عليهم ، وأفشلوا أنفسهم عندما أُمروا بالدخول الثاني بلا حرب ، فأفشلهم الله وأذهب ريحهم . وقد قيلت هذه العبارة ، لآدم عليه السلام وزوجه ( وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا (35 البقرة ) ، قبل دخوله الجنة ، ولم يكن لديهما علم بأن الإقامة فيها مؤقتة ، وأن هناك ما بعدها ، وسيحاطون به علما عند وقوعه ، وفي موعده المقدر المضمر في علم الله ، ولكن بعد فوات الأوان . وإن لم تكن مدين ، هي القرية التي دخلها بنوا إسرائيل وأقاموا فيها ، فهي قرية تقع في نفس المنطقة ، والله أعلم .
الخسف بقارون ، ورحلة موسى والفتى ، وذبح البقرة :

أقام بنو إسرائيل في مدين بمعية موسى - على ما يبدو - سنين عديدة ، واطمأنوا بها وإليها ، وطاب لهم المقام فيها ، حيث الزراعة وتربية المواشي والتجارة ، وهذا هو ديدنهم ، ومن الأحداث التي وقعت فيها ، قصة البقرة ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (67 البقرة ) ، وقصة سفر موسى حيث مجمع البحرين ، للالتقاء بالعالم ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقبًا (60 الكهف ) وقصة قارون المعروفة ، ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76 القصص ) .
الأمر بدخول الأرض المقدّسة وتحريمها عليهم وتيههم شرقي النهر :

وبعد مدة من مكثهم في مدين ، أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة ( فلسطين ) ، ولم تكن هناك حاجة للقتال آنذاك ، فرفضوا وعصوا ، لقلة وانعدام إيمانهم ، وأخلدوا إلى الأرض ، وتذرّعوا بحجج واهية ليبرّروا اتكاليتهم وعجزهم ، فدعا موسى ربه ليحكم بينه وبينهم ، فاستجاب له ربه ، ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26 المائدة ) ، فكان تحريم الدخول لمدة أربعين سنة ومن ثم التيه في الأرض .
والتيه لغة الحيرة والضلال ، ورجل تائه وتيّاه ، إذا كان جسورا يركب رأسه في الأمور ، وفي الحديث : إنك امرؤ تائه ، أي متكبر أو ضال متحيّر . والمراد من ذلك أنهم تُركوا على رؤوسهم ، وحُرموا من قيادة الأنبياء ، بأن الله تخلى عنهم وحرمهم من رعايته لهم ، ورفع عنهم الوحي وتركهم بلا هداية ، بعد موت موسى عليه السلام ، على مدى 40 سنة ، ولم يُقصد بالتيه الضياع والتشرّد المكاني ، في صحراء سيناء ، كما كنا نعتقد سابقا . والصحيح أنهم حافظوا على تواجدهم ، كأمة مكونة من 12 جماعة شرقي نهر الأردن ، وأُوكلت قيادة كل جماعة إلى أحد النقباء الاثني عشر ، كل حسب السبط الذي ينتمي إليه ، بعد انقطاع قيادة الوحي ، وهذا مما ينفي نبوة فتى موسى المسمى بيوشع بن نون . وهنا تتضح الحكمة من جراء إلقاء مسؤولية حفظ الميثاق وإقامته ، على النقباء الاثني عشر بعد وفاة موسى وانقطاع الوحي والعناية الإلهية . وهذا ما حاول مؤلّفو التوراة إخفاءه بتبديل مواضع الكلم ، فجعلوا المن والسلوى ، تتنزّل عليهم لمدة أربعين سنة في الصحراء ، وهي عدد سنين التحريم والتيه ، التي كانوا يأكلون فيها البصل والعدس .
ويدّعي كتبة التوراة أن بني إسرائيل ، أثناء قدومهم إلى الأرض المقدسة ، بمعية موسى عليه السلام ، قد قاتلوا أقواما كثيرة ، شرق نهر الأردن وانتصروا عليها ، ويدّعون أيضا أنهم هاجموا الكنعانيين بعد موسى ، وهدموا أسوار مدينة أريحا بمعية يوشع بن نون ، وأنهم أقاموا زمن القضاة غرب النهر . وهذا كله محض افتراء وتلفيق ، فكيف يقاتل من طلب منه مجرد الدخول ولم يدخل ، ولفظ الدخول في القرآن يوحي بانتفاء القتال . والحوار الذي دار بين موسى وقومه لدخولها ، تجد نصه كاملا في الآيات (20 – 27) المائدة .
زمن الإخبار بنص نبوءة الإفساد والعلو في الأرض :

وبعد مدة يسيره من الزمن من ذلك الحكم ، كشف موسى عليه السلام النقاب عن النبوءة موضوع هذا الكتاب ، وأخبر عنها قبل أن ينتقل إلى جوار ربه . وتركهم في غيهم وطغيانهم يعمهون ، كما حكم عليهم ربهم ، وأُوكل الأمر من بعده إلى النقباء الإثني عشر أصحاب الميثاق ، ليحفظوا التوراة ، وليحكموا بين الناس بما جاء فيها ، ومن ذلك اليوم انتقلت مسؤولية حفظ التوراة والشريعة إلى أناس عاديين ، فبدأ ظهور الأحبار ، قال تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ، لِلَّذِينَ هَادُوا ، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ (44 المائدة ) .
طلب المُلك لدخول الأرض المقدّسة بعد نهاية سنوات التيه :

( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
وبعد انقضاء سنون التيه الأربعون ، التي عاشوا خلالها شرقي نهر الأردن . بُعث فيهم نبيا ، يدّعون أن اسمه ( صمويل ) . وربما لتعرضهم لضيق العيش والاضطهاد والغزو ، من قبل الممالك المجاورة شرقي النهر ، طلبوا من هذا النبي ، أن يبعث لهم ملكا ، قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ، إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (246 البقرة ) بغية دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، فبُعث لهم طالوت ملكا ، وأنزل الله لهم التابوت تحمله الملائكة ، آية لملكه ، كونهم لا يؤمنون إلا بما هو محسوس ، فأعدّهم ونظّم صفوفهم ، واجتاز بهم نهر الأردن ، فشربوا منه إلا قليلا .
وكانت المواجهة مع الكنعانين – على الأرجح في سهول أريحا – ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ) وقتل داود - الذي كان من جنود طالوت - جالوت قائد الكنعانيين ، ودخلوا القدس . ومن ثم انتقل المُلك لداود عليه السلام ، بغض النظر عن الكيفية ، ( وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (251 البقرة ) ، ونص هذه الأحداث كاملا ، تجده في الآيات (246 – 251) البقرة ، وكانت هذه أول معركة يقاتل فيها بنو إسرائيل ، وكان جيشهم يتألف من القلة المؤمنة ، التي لم تكن قد شربت من النهر ( نهر الأردن ) ، وكان هذا هو الدخول الأول لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة .
داود عليه السلام يؤسس أول دولة لليهود في القدس :

قال تعالى ( وَلَقَدْ آتَينَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16 الجاثية ) ، هذه الآية تشير إلى أن هناك خمسة أمور اجتمعت لبني إسرائيل ، وهي الكتاب أي الشريعة التي تركها لهم موسى عليه السلام ، والحكم أي الملك ، والنبوة أي الوحي ، والسعة في الرزق ، والتفضيل باختيارهم لحمل الرسالة السماوية في ذلك الزمان ، وقد اجتمعت هذه الأمور الخمسة في زمن مملكتهم الأولى في الأرض المقدسة ، حيث كان داود عليه السلام أول ملوكها .
ملك داود عليه السلام :

معظم الآيات التي أخبرت عن داود وملكه ، كانت تركّز على شخص داود ، حيث اتّصف عليه السلام بالورع والتقوى وكثرة العبادة ، والعلم والقوة مع شيء من اللين في المعاملة ، وتوحي بأن شغله الشاغل ، كان توطيد أركان دولته الحديثة ، ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20 ص ) ، وإعداد ما استطاع من قوة للدفاع عن دولته الصغيرة ، التي كانت محصورة في بيت المقدس وما حولها ، من هجمات الأقوام المجاورة لها من الكنعانيين ، ولم يكن يسعى لتوسيع رقعة الدولة ، كون الأمة الإسرائيلية آنذاك كانت قليلة - وهي لم تكثر إلا في العصر الحديث ، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث رُفع عنهم القتل - ولم تكن تستدعي امتلاك مساحة كبيرة من أرض فلسطين .
صفة الجبن الملازمة لليهود ومعالجتها بابتكار داود للدروع الحربية :

قال تعالى ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80 الأنبياء ) ، والضمير ( كم ) في كلمتي ( لكم ) و ( بأسكم ) ، يعود على المخاطبين بالقرآن ، وهذا خبر يفيد أن داود عليه السلام ، هو أول من ابتكر الدروع الحربية الحديدية ، وأول من استعملها هم بنو إسرائيل ، وهذا يكشف طبيعة الجبن فيهم ، والحرص على الحياة ، والخوف من الموت ، وكرههم للقتال ، ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا (96 البقرة ) وصناعة داود لها يدل على معرفته بطبيعتهم تلك ، فقد قالوا لموسى من قبل ( إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24 المائدة ) ، فالجبن والتواكل على الغير ، طبيعة متأصّلة في نفوسهم ، وانظر إلى قولهم ( وربك ) وليس ( وربنا ) ، فهو رب موسى ، وليس بربهم ، فما كانوا مؤمنين ، لذلك قال فيهم موسى عليه السلام ( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25 المائدة ) ، وكان أغلبهم فاسقين وعصاة ومعتدين ، حتى في زمن طالوت وداود وسليمان وعلى مر العصور ، حيث قال تعالى ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78 المائدة ) ، فكما تأذّى موسى عليه السلام ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5 الصف ) تأذّى منهم داود عليه السلام وهو أول ملوكهم ، وتأذّى منهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم ، ومن وقع بينهما من الأنبياء .
ولم يكن شُرب أغلبهم من النهر ، عند عبورهم مع طالوت إلى فلسطين عطشا ، وإنما ليستثنيهم طالوت من الخروج في الجيش للقتال ، وما زالوا يفتعلون الحجج للتهرب من القتال حتى في دولتهم الحالية ، فهم يدفعون بأبنائهم إلى المدارس الدينية ، لتجنيبهم الخدمة العسكرية . فابتكر عليه السلام الدروع الحديدية ليلبسوها في حروبهم ، مع الشعوب المجاورة ، التي على ما يبدو كانت تغزوهم باستمرار ، لعلها تدخل شيئا من الاطمئنان إلى تلك القلوب الوجلة ، وتدفعهم إلى الذود عن حمى مملكتهم . ولو نظرت إلى واقعهم المعاصر ، لوجدتهم يلبسون الدروع الواقية من الرصاص ، حتى في مواجهة الحجارة ، وتجدهم يتحصّنون وراء السيارات المصفحة ، أو يقاتلون من وراء جدر من الإسمنت المسلح ، وهذا ما يفضحهم به القرآن في مواضع كثيرة ، ( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14 الحشر ) .
سليمان عليه السلام يوطّد أركان الدولة :

نظام الحكم ملكي وراثي :

( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ (30 ص ) ، ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ (16 النمل ) ، نتبين من الآيتين السابقتين ، أن نظام الحكم في مملكة بني إسرائيل الأولى ، كان ملكيا وراثيا ، في نسل داود عليه السلام . وفي سنين حكم سليمان عليه السلام ، سعى إلى توسيع رقعة مملكته نسبيا ، لتغطي مساحة أكبر من مدينة القدس ، لتشمل ما حولها من المدن والقرى ، من النهر شرقا إلى البحر غربا ، ولكنها على كل الأحوال ، لم تشمل فلسطين كاملة ، فأهل فلسطين الأصليين لم يخرجوا منها ، ولم يّبادوا ، ولكنهم تقهقروا إلى ما بعد حدود مملكة سليمان ، حيث كانت الممالك في تلك العصور ، تقتصر على مدينة – بحجم قرية في العصر الحالي – وما حولها من سهول ومراعي ، ولا أظنهم استكانوا ، وسلمّوا لبني إسرائيل بالأمر الواقع ، وإنما كان هناك ، حروب ومناوشات ، والله أعلم .
حقيقة ملك سليمان :

أما قول سليمان عليه السلام ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35 ص ) فكان ملكا شخصيا خاصا به ، ولم يكن لبني إسرائيل فيه ، ناقة ولا بعير ، ولم يقصد به امتلاك مساحات شاسعة من الأراضي ، ومظاهر ملكه اقتصرت على ما وهبه سبحانه إياه ، من الممتلكات والقوة والحكم ، والتي تميّز بها عن كافة ملوك الأرض ممن أتوا بعده ، ومنها ؛ جريان الريح بأمره ، وحكمه للجنّ ، واستعمالهم في البناء والغوص والقتال والصناعة ، والقدرة على إذابة النحاس وتشكيله ، وكثرة جنوده من الجن والإنس والطير ، وكان عليه السلام قويا ورعا تقيا عالما حكيما ، وفيه شيء من الشِدّة ، وكان بنوا إسرائيل يرهبونه ويخافونه ، ولذلك نال قسطا كبيرا من اتهماتهم المشينة ، بعكس أبيه داود الذي كان لينا معهم ، فقال فيهم سبحانه ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ … (102البقرة ) ، وعلى ما يبدو أن الشياطين بعد وفاته عليه السلام ، ادّعت أن سليمان لم يسلطّ عليهم ، وإنما كان تابعا لهم ، يعبدهم ويستعين بهم لقضاء مصالحه . فأشركوا بالله وعبدوا الشياطين وأباحوا السحر والشعوذة ، ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100 الأنعام ) .
أكثر ما حيّرني في أمر ملك سليمان ، هو الغاية من تسخير الريح ، فالروايات في كتب التفسير غير منطقية ، حيث تقول أنها كانت تحمل سليمان وملأه وجنوده ، على بساط خشبي عظيم ، وتنقلهم من بلد إلى آخر للقتال والترفيه وغيره ، ولم يرد في تواريخ الأمم التي عاصرت ملك سليمان ، أنهم شاهدوا يوما بساطا خشبيا طائرا ، وسورة النمل تؤكد أن سليمان وجنوده ، كانوا يسيرون على الأقدام أثناء تنقلهم .
وبعد طول تفكير وتمعنّ وتدبّر في الآيات ، التي تتحدث عن الريح وعن ملكه عليه السلام ، تبين لي أنه كان يركب البحر ، منطلقا من الأرض المقدسة ، فتجري الريح بمركبه إلى حيث أراد برفق ولين في الذهاب ، لتسهل عليه عملية البحث والتقصي ، بدلالة قوله تعالى ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37 ص ) ، وبعد انتهاء المهمة ، يستعجل العودة إلى وطنه ، فيأمر الريح لتجري بقوة وسرعة إلى الأرض المباركة ، بدلالة قوله تعالى ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82 الأنبياء ) ، وأما الغاية من القيام بالرحلات البحرية ، فهي السياحة واستخراج كنوز البحر وجلبها لمملكته ، ويؤيد ما ذهبت إليه ، ذكر الغوص ، الذي كانت تقوم به الشياطين ، مباشرة بعد ذكر الريح في الآيات السابقة ، والغوص عادة لا يكون إلا في المياه العميقة ، وكانت مدة كل رحلة من رحلاته شهرين ، شهر في الذهاب وشهر في العودة ، بدلالة قوله تعالى ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ (12سبأ ) ، والله أعلم .
سليمان هو أول من بنى المسجد الأقصى :

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً ، سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ ، أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ ، أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) رواه النسائي وأحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم ، وصححه الألباني .
هذا الحديث يؤكد :
1. أن مملكة داود وسليمان ، أي مملكة بني إسرائيل الأولى ، كانت في فلسطين .
2. أن سليمان عليه السلام ، بنى مدينة بيت المقدس .
3. أن سليمان عليه السلام ، هو أول من بنى المسجد الأقصى .
وأما التسمية بالمسجد فهي التسمية الإسلامية له ، وجاءت بعد حادثة الإسراء ، وأما في عهد سليمان عليه السلام ، فقد جاءت تسميته في القرآن بالصرح ، ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ) ، وأما الترجمة العربية للتوراة فأعطته اسم الهيكل ، والمعنى لكلتا التسميتين واحد ، وهو البناء الضخم المرتفع . وعلى كل الأحوال فإن المسجد الأقصى القائم حاليا ، يجثم في نفس المكان الذي أقيم فيه صرح سليمان ، والغريب أن الكثير من أئمة المسلمين وعامتهم ، ينكرون هذه الحقيقة ، ربما ظنا منهم أن اعترافهم بها ، يعطي الصهاينة حقا في هدم المسجد ، وبناء هيكلهم مكانه ، ويُسقط أحقيّة المسلمين فيه ، ويُضعف موقفهم في الدفاع عنه ، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مخالفة النص القرآني ، وإنكار حتى تواجدهم في الأرض المقدسة جملة وتفصيلا .
قبلة اليهود هي الصخرة المشرّفة :

جاء في البداية والنهاية لابن كثير ، ما نصّه " قال الإمام احمد ، حدثنا اسود بن عامر ، ثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عبيد بن آدم ، وأبي مريم وأبي شعيب : أن عمر بن الخطاب ، كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس ، قال : قال ابن سلمة ، فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم سمعت عمر يقول لكعب : " أين ترى أن أصلي " ، قال : " إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، وكانت القدس كلها بين يديك " ، فقال عمر : " ضاهيت اليهودية . لا ، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط ردائه ، وكنس الكناسة في ردائه ، وكنس الناس . وهذا إسناد جيد ، اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي ، في كتابه المستخرج " .
وجاء في تاريخ الطبري في رواية أخرى ، أن عمر أجاب كعب بقوله : " فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكنّا أُمرنا بالكعبة " .
ونقول أن مفاد الرواية أن كعب ، لما أشار على عمر بالصلاة خلف الصخرة ، أراد منه أن يجمع القبلتين في صلاته ، فأبى عمر وصلى ، جاعلا وجه تلقاء الكعبة ، والصخرة من وراء ظهره .
الصلاة في الشريعة الموسوية :

لنوضح الأمر ، نحتاج إلى معرفة طبيعة العبادة في شريعة موسى عليه السلام ، فالصلاة لديهم كانت تؤدّى بشكل فردي في البيت أو فيما يُسمّى بالمحراب ، في المعبد المقدس ( أي الهيكل ) ، ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ ، أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87 يونس ) ، والمحراب عبارة عن غرفة صغيرة منعزلة ، مخصّصة للصلاة والدعاء والذكر ، والأغلب أنها كانت تقام مرتفعة عن الأرض ، وهي أشبه ما يكون بالعليّة أو السدّة ، وقد ارتبط ذكر المحراب في القرآن ، بأنبياء بني إسرائيل الأوائل في فلسطين داود وسليمان ، ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21 ص ) ، وبآخر أنبيائهم زكريا ويحيى ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ (39 آل عمران ) .
الصرح أو الهيكل ، كيفية بناءه وصفته وموقعه :

أما الصرح فعلى ما يبدو أنه كان أعجوبة من أعاجيب الزمان ، وأن من قام ببنائه وصناعة محتوياته هم الجن والشياطين ، وأن مادة البناء كانت من النحاس والزجاج ومواد أخرى ما عدا الحجارة ، وأنه اشتمل على المحاريب والتماثيل والأواني النحاسية الصغيرة ، والأحواض أو البرك المائية الضخمة المصنوعة من النحاس ، والجواهر والكنوز من لؤلؤ ومرجان وغيرها ، مما كانت تستخرجه الشياطين من أعماق البحار . قال تعالى ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37 ص ) وقال أيضا ( وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ، وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ ، وَتَمَاثِيلَ ، وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ، وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ، اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ (13 سبأ ) .
وأستطيع وصف هذا الصرح بأنه بناء ضخم ومرتفع ، كانت الصخرة تقع في مركزه ، تحيط بها ساحة واسعة ، أرضيتها من الزجاج المصقول ، يُرى من خلالها ماء يجري أسفل منها ، أو ماء راكد في أحواض مائية ، وضع فيها ما استجلبه سليمان من المناظر والمشاهد البحرية ، مما استخرجته له الشياطين من أعماق البحر ، وعلى أطراف تلك الساحة أقيمت المحاريب العديدة للعبادة من كل جانب . والله أعلم .
وقد سمعت من زميل لي زار المسجد وتجوّل فيه ، أن هناك آبارا وأحواضا مائية ، تحت ساحة المسجد الأقصى مباشرة ، فإذا كان ذلك صحيحا ، ومع علمنا بأن المسجد الأقصى بُني في نفس موقع المسجد السابق ، وأن الصخرة هي القبلة الفعلية لليهود ، فهذا الأمر يُؤكد ، أن الصرح الذي كان قد بُني في عهد سليمان عليه السلام ، هو المسجد الذي دخله أولئك المبعوثين أول مرة ، وخرّبوه ونهبوا محتوياته ، فلم يبق له أثر يُذكر ، وعدم وجود آثار له ، يُؤكد أن هذا الصرح ، لم يتم بناءه بالطرق المألوفة ، سواء بهندسة البناء أو بالمواد المستخدمة ، فبُناته هم الجن والشياطين ، وبالتأكيد طريقتهم في البناء تختلف عن طريقة البشر ، وطبيعة المواد المستخدمة تختلف عما يستخدمه البشر ، وربما يكون هذا الصرح الخرافي ، هو ما دفع نبوخذ نصر صاحب حدائق بابل المعلّقة ، للإغارة على بني إسرائيل في المرة الأولى ، لنهب محتوياته .
حكمة سليمان عليه السلام وخرافات ألف ليلة وليلة :

الروايات الموجودة في كتب التفسير ، عن قصة سليمان وحبه لملكة سبأ ، ورغبته في الزواج منها ، وإدخالها إلى الصرح لرؤية ساقيها ، فيما إذا كان عليهما شعر ، أو أن قدميها كحوافر الحمار ، لأن أبوها أو أمها من الجن … إلى آخره . مما ليس له أصل حتى في التوراة ، جردّت سليمان عليه السلام من حكمته ، في الدعوة إلى الله ، وجعلت منه رجلا مزواجا شهوانيا ، كما أراد له أعداء الله وأعداء أنبياؤه أن يكون .
حكمة الهدهد :

ولكي نفهم ما جرى من حوار وأحداث ، بين سليمان وملكة سبأ ، دعنا نتمعن قليلا في قول الهدهد ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ، فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ ، فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24 النمل ) ، يقول الهدهد أنه وجدها هي وقومها ، يعبدون الشمس من دون الله ، ويعلّل ذلك بقوله أن الشيطان زيّن لهم أعمالهم ، بمعنى أن الشيطان فتنهم وأوهمهم ، وزيّن لهم الباطل على أنه الحق ، وعمّى سمعهم وأبصارهم ، فعطّل عقولهم عن تمييز الحقيقة من الوهم ، فحرمهم القدرة على الحكم على معتقداهم ، أهي خطا أم صواب ، فعبدوا الشمس على أنها ربهم ، وبذلك صدّهم عن السبيل ، أي منعهم من الوصول إلى الحقيقة ، وهي أن الله هو ربهم ، فما دامت أبصارهم قد عميت ، ويعتقدون بصوابية عبادة الشمس ، فمن أين لهم الهداية ، وهم على حالهم تلك . والرسالة التي وجّهها الهدهد لسليمان ، من خلال هذا القول ، هي أنهم بحاجة لمن يهديهم ، ويُزيل الغشاوة عن أبصارهم . فتكفّل سليمان عليه السلام بهدايتهم ، وبإزالة هذه الغشاوة ، لعلهم يُبصرون ومن ثم يهتدون ، بما أوتي من علم وحكمة ، بعد أن شرَّحَ الهدهد ، وشخَّصَ حالتهم المرضية ، وأعطى سليمان مفاتيح الحل ، والآن دعنا نتعلم منه عليه السلام ، هذا الدرس العملي في الدعوة إلى الله .
الدعوة إلى الله :

كان أول خطاب وجهه سليمان لملكة سبأ وقومها ، هو قوله ( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) ، خطابا حازما واثقا قويا ومزلزلا ، وكانت هذه هي الضربة الأولى ، في جدار معتقداتهم الوثنية المتأصلة في نفوسهم ، فقد كانت هي وقومها يعبدون الشمس ، ولم يكن لديهم علم بوجود إله آخر ، أولى بالعبادة من غيره ، ولكن هل أطاعت ؟ بالطبع لا ، فتغيير معتقدات البشر عملية صعبة جدا ، وتحتاج إلى أكثر من ذلك ، وتحتاج إلى علم وحكمة وصبر – وانظر في سيرة نبي الهدى عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش لتحويلهم من عبادة إلى الأصنام إلى عبادة الله - ولكن هل تأثرت بذلك العرض القوي ؟ بالطبع نعم ، فردت بالهدية – وكان بإمكانها عدم الرد – وذلك لتتأكد من جديّة سليمان عليه السلام ، ولتَعرِف مع من تتعامل ، فهي ذكية وحكيمة أيضا ، وتعي موقعها وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقها ، بعكس ملأها ذوي القوة والبأس الشديد ، ودلالة ذلك ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فأعاد الهدية ، ووجه لها تهديدا صارما وحازما وأخيرا ، ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) ، فاستوعبت الرسالة ، وهي أن ما لدى سليمان ، خير مما لديها ، وأن هذا التهديد ، لا يصدر إلا عمّن يعلم حجم قوتها ، ولديه من القوة أضعاف ما تملك ، وأن ما يريده لأجلها شيئا آخر .
الإتيان بالعرش وتنكيره :

لذلك حملت قومها وأتته على جناح من السرعة ، وفي طريقها إليه ، كان عليه السلام يُعدّ لها الضربة الثانية ، فطلب عرشها وأمر بتنكيره ، وعلّة ذلك كانت ( نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) ، لاختبار مدى استعدادها للهداية للدين الجديد ، وليس المقصود هو اهتدائها إلى العرش . كان همّه عليه السلام هدايتها وقومها ، وليس الزواج منها ، كما صوّرته بعض الروايات في كتب التفسير .
وكان جلب العرش بحدّ ذاته ، كفيلا بتحطيم ذلك الجدار الذي تمترست خلفه . وقد تحطّم بداخلها فعلا عندما رأته وعرفته ، لكنها أضمرت ذلك وتمالكت نفسها . ولما سُئلت عنه ، لم تُثبِت ولم تَنفِ ، وكان بمقدورها أن تعترف بأنّه عرشها ، وأن تُسلم على الفور ولكنها أجّلت ذلك . والسبب هو ذلك الجدار نفسه ( وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ، أي الغشاوة التي أعمت بصرها وبصيرتها ، وخوفها من قومها أيضا ، فقالت ( كَأَنَّهُ هُوَ ) ، وحتى لو أُجريَ على متاعك ، الكثير من التعديلات ، فستبقى أشياء كثيرة تدلك عليه ، فكانت إجابتها حكيمة وغاية في التعقل ، فلم تثبت وتسلم أسلحتها الواهية من الوهلة الأولى ، محافظة منها على كبريائها كملكة ، ولم تنف ، لأنها تعلم وقومها ويعلم سليمان وقومه علم اليقين ، أنه هو بعينه ، فتدل على كبرياء أجوف وعن بلاهة وغباء ، فإجابتها الموسومة بالشكّ كانت هي الأسلم .
كانت تعلم بحكمتها أن هناك شيئا آخر ينتظرها ، سيأتي أوانه بعد حين ، فكشفت بهذه الإجابة لسليمان عن استعدادها للهداية ، فيما لو عرض عليها برهانا دامغا وقاطعا . ولكن ما الذي فعله سليمان حقيقة في هذا الموقف ؟ كان إحضار عرشها ، لإظهار مدى عظم ملكه الموهوب له من قبل ربه ، وكان تنكير العرش لإيقاظ حاسة البصر فيها ودقة الملاحظة ، وتحفيزا لعقلها وقلبها ، ولما اهتدت إلى إنه عرشها ، أخذتها العزة بالإثم شيئا قليلا ، فكابرت حتى حين .
دخول الصرح :

فكانت الضربة الثالثة والأخيرة ، أي القاضية التي سوّت ذلك الجدار بالأرض ، ولم تترك له أثرا ، ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ) ، فما الذي كان في الصرح ؟ كانت أرضية الصرح من زجاج مصقول ، ومن تحت الزجاج ماء ، وعندما شاهدت الماء ، رفعت ثوبها خوفا من البلل ، وهمّت بالمشي فيه ، ( فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ) فتبسم سليمان وكأنه خاطبها ضاحكا : لقد كنت واهمة ، فلن يصل الماء إلى ثوبك فأنزليه وتقدمي ، فهذا ( صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ ) فأنزلته ودخلت ، ولما لامست قدميها الزجاج تبين لها بطلان ما اعتقدت . وهنا مربط الفرس ، فما كان منها إلا أن خجلت ، من وهمها وانعدام بصيرتها ، وذهاب عقلها وحكمتها وضلالها في تلك اللحظة ، إذ لم تستطع تمييز الزجاج من الماء ، فاستوعبت على الفور ، مضمون الرسالة التي وجهها لها سليمان .
العبرة :

فقد يظنّ الإنسان بجهله أنه على حقّ ، بينما يكون في الحقيقة على باطل ، وهذا هو حالها وقومها بعبادة الشمس من دون الله ، وأنه دعاها إلى الحق عن علم ، فتمسّكت بالباطل عن جهل ، فتبينت بالتجربة والبرهان بطلان معتقدها ، وأن الحقّ مع سليمان ، فاستجابت على الفور لدعوة سليمان الأولى ، قائلة ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) باتباع الباطل عن غير علم ، ( وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44 النمل ) ، فما كان من قومها إلا أن تبعوها ، وعادت إلى مملكتها لهداية قومها ، وأُرجّح أن سليمان لم يتزوجها ، والله أعلم ، ودانت بعد ذلك مملكتها لسليمان دينيا ، وليس عسكريا ، وبقيت العلاقات والمصالح التجارية وغيرها قائمة بين الدولتين ، مرورا بجزيرة العرب ، لفترة طويلة ، حسبما تثبته سورة سبأ (15 – 20) ، وفيما بعد كفر قوم سبأ إلا قليل منهم ، ومع تقادم الزمن انقطعت تلك العلاقة .
بنو إسرائيل في عصر سليمان :

أما بني إسرائيل في عصر سليمان ، فلم يختلفوا كثيرا عما كانوا عليه ، في عصر موسى وداود ، حيث كانوا على الدوام فاسدين كأفراد ، إلا من رحم الله ، وما اختلف عليهم في عصر سليمان ، أن سليمان ساسهم بالقوة والسلطان ، وكان يأخذهم إلى القتال ، وهم بطبيعتهم له كارهون ، قال تعالى ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17 النمل ) ، وحشر أي جُمع ، ويوزعون أي يساقون بانضباط ، ولا يتقدم آخرهم على أولهم .
هل تحقّق العلو الأول لبني إسرائيل في فلسطين ؟

وأما سبق دخولهم للأرض المقدسة ، فقد قال فيه سبحانه ، على لسان موسى عليه السلام ، ( يَقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ (21 المائدة ) أي كُتب لبني إسرائيل دخولها ، وقال سبحانه ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (137 الأعراف ) أي ملكوها وسكنوها ، وذلك بعد انقضاء سنوات التحريم والتيه الأربعين . والأرض المبارك فيها هي فلسطين ، ومشارقها ومغاربها أي كلها ، من النهر إلى البحر ، وهذه هي حدود الأرض المقدّسة والمباركة ، وحدود مملكة اليهود القديمة . لنخلص إلى أن الأرض المقدّسة والمباركة هي فلسطين فقط ، وليس بلاد الشام عامة . إذ أن موسى عليه السلام ، كان يتواجد وقومه شرقي نهر الأردن ، ولو كان شرق النهر أرضا مقدّسة ، لما قال ادخلوا الأرض المقدسة وهو بداخلها أصلا . وشرق النهر لم يورّث لبني إسرائيل ، وإنما أقاموا فيه فترة الغضب الإلهي عليهم ، ومن ثم تركوها وارتحلوا إلى فلسطين .
وصلنا إلى مرحلة تحقق العلو ، بوحي من الله وقيادة أنبياؤه وملوكه ، وكان هذا هو العلو الأول لبني إسرائيل ، وأما الإفساد فلم يكن قد وقع منهم بعد ، كون الملك اقترن بالنبوة ، وما كان للأنبياء عليهم السلام أن يفسدوا في الأرض ، ونجد أن النبي التالي لسليمان في الذكر ، من أنبياء بني إسرائيل في القرآن ، هو زكريا ومن بعده يحيى ، وكان آخرهم عيسى عليهم السلام جميعا . وقد بعث الثلاثة بالتتابع وعاصر بعضهم بعضا ، وكان ذلك بعد فترة طويلة من وفاة سليمان ، وبعد عيسى لم يُبعث فيهم أنبياء ، ويقدّر المؤرخون بأن المدة ما بين سليمان وعيسى ، بأكثر من 900 سنة .
وما كان بعث عيسى عليه السلام بالإنجيل ، إلا لتجديد الشريعة التي جاء بها موسى ، بعد أن أضاع بنو إسرائيل التوراة واختلفوا في أمرها . قال تعالى ( وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63 الزخرف ) . ويُثبت التاريخ أن بعث عيسى عليه السلام ، كان في زمن الحكم الروماني للمنطقة ، مما يعني أن هذا العلو الذي تحصّل عليه بنو إسرائيل قد زال واندثر . مما يترتب عليه أن الإفساد قد وقع ، وأن البعث قد تحقق ، في الفترة الممتدة ما بين سليمان وعيسى عليهما السلام ، في زمن أقرب إلى حكم سليمان منه إلى بعث عيسى .
المملكة اليهودية بعد سليمان :

وليس من المعقول أن نجزم بأن مملكة سليمان انهارت بموته . وبما أن نظام الحكم ، كان ملكيا وراثيا كما أقرّه القرآن ، فلا بد أن يكون الملك ، قد انتقل إلى أحد أبناء سليمان ، الذين لم يكونوا أنبياء في واقع الحال ، فالنبوة آنذاك خرجت من الملك ، وأصبحت في عامة الشعب ، وهنا تحرّر العصاة والمعتدين من اليهود ، من عبدة المال والسلطة تجارا ومرابين ، من حكم وملك الأنبياء ، حيث كان الوحي يقف سدّا منيعا ، أمام طموحاتهم وأحلامهم ، في نهب ثروات البلاد والعباد ، فهم أبناء الذين قال فيهم تعالى ( قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79 القصص ) .
وعلى مر السنين تغيّرت الأحوال ، وتغلغل المرابين والتجار في أوساط الحكم ، وتبادلوا المصالح والمنافع ، وأصبحوا من علية القوم ، ليفرضوا على الملوك ، ما شاءوا من سياسات تخدم مصالحهم . ولو راجعت التوراة المؤرخ الوحيد لتلك الفترة ، لوجدت أن عدد الملوك الذين تعاقبوا على الحكم ، على مدى 300 سنة تقريبا ، هو 22 ملكا ، وهو عدد كبير نسبيا ، بمعدل 14 سنة حكم لكل ملك . وذلك لكثرة الاغتيالات ، التي كان يدبّرها ويوقعها فيهم علية القوم ، ومن والاهم من الكهنة والأحبار ، سواء من صلح أو فسد ، من هؤلاء الملوك . والملاحظ أيضا أن معظم ملوكهم ، كانوا صغارا في السن ، وربما كان ذلك هو الغاية من قتل آبائهم ، فوجود ملك صغير السن ، يسهل عليهم السيطرة على شؤون الحكم ، ليكونوا هم خبرائه ومستشاريه ، وهذه هي سياستهم في العصر الحالي ، في شتى بقاع الأرض . وعلى الجانب الآخر كان هناك الأنبياء ، الذين لم ينقطع بعثهم في بني إسرائيل ، ليعيدوا أولئك العصاة إلى حظيرة الإيمان ، بدعوتهم إلى العودة إلى شرع الله ، وتذكيرهم وتحذيرهم بما قضاه الله عليهم إن أفسدوا في الأرض .
تخبرنا كثير من الآيات القرآنية عن إفساد بني إسرائيل ، حيث الشرك بالله ، وتكذيب فريق من الأنبياء ، وقتل فريق آخر ، وقتل أولياء الله من الناس ، وسفك دماء فريقا من قومهم وإخراجهم من ديارهم ، وتحريف الكهنة والأحبار ، لكتاب الله ليوافق أهواء علية القوم ، والاعتداء على حدود الله ، وعصيان أوامره ، وأكلهم الربا وأموال الناس بالباطل … إلى آخره . ومجمل هذه الآيات تخاطب بني إسرائيل كأمة . فأين ومتى وقع منهم هذا الإفساد الأممي … ؟!
وهل تحقّق الإفساد الأول ؟

قال تعالى ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87 البقرة ) ، والخطاب هنا موجه لمن يملك سلطة القتل ، وهم سادة الحكم وعلية القوم ، فتارة كانوا يكذّبون الأنبياء وأولياء الله ، الذين بُعثوا من قبله سبحانه للإصلاح ، وتارة يقتلونهم ، بدفع من الكهنة والأحبار والتجار ، ، لتعارض ذلك مع رغباتهم وأهوائهم ، ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21 آل عمران ) ، فلا أشدّ وأعظم إفسادا في الأرض عند الله ، من قتل الناس وسفك دمائهم بغير حق ، فما بالك إذا كان القتل في أنبياء الله وأولياءه الصالحين ، فهذا قمّة في الإجرام والإسراف والعصيان والتمرد والعدوان ، ولا أظنّ أن هناك إفساد في الأرض ، يُقارن بهذا الإفساد ، فلم يسبق لقوم من الأقوام السابقين واللاحقين ، أن قتلوا أنبياءهم سوى بني إسرائيل ، وما إفسادهم الحالي في دولتهم الحالية ، إلا صورة طبق الأصل عن الإفساد الأول في دولتهم الأولى ، ولو بُعث فيهم أنبياء في هذا العصر لقتلوهم بلا شك ، فقد قتلوا رئيس وزرائهم ( رابين ) ، بدفع وتحريض من الحاخامات ، كونه لبس ثوب الصلاح فقط ، بإظهاره شيئا من اللين مع الفلسطينين ، لا لأنه مُصلح .
قال تعالى ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (85 البقرة ) . توحي هاتين الآيتين ، أن سادة الحكم كانوا يستضعفون طائفة من قومهم ، ظلما وعلوا بغير وجه حق – وهذا نفس فعل فرعون - فأوقعوا فيهم القتل ، والنهب والسلب ، وأخرجوهم من ديارهم واستولوا عليها . فاضطروا إلى اللجوء إلى أرض أعدائهم ، وعلى ما يبدو أنهم كانوا يُجبرون على خوض المعارك ، إلى جانب أعداء مملكة بني إسرائيل ، وعند وقوع المعركة ، كان هؤلاء المستضعفين يُحجمون عن قتال بني جلدتهم ، ويقومون بتسليم أنفسهم ، ظنّا منهم بأن أبناء جلدتهم ، سيتركونهم ليعودوا إلى أهليهم بعد انتهاء المعركة ، فما كان من أولئك الظلمة ، إلا أن عاملوهم كأسرى العدو ، فحبسوهم وطالبوا ذويهم بالفدية .
وأما مظاهر الإفساد الأخرى فمنها :

1. الشرك بالله :
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ (51 النساء )
( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60 المائدة )
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31 التوبة )
2. نقض الميثاق وكتمان كلام الله وإخفائه وتحريفه :
( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13 المائدة )
( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187 آل عمران )
3. عبادة الجن والشياطين وتعلم السحر وممارسته :
( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100 الأنعام )
( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102 البقرة )
4. الربا والسرقة والاحتيال :
( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161 النساء )
( وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62 المائدة )
5. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
( كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79 المائدة )
6. نقض العهود والمواثيق :
( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
وهكذا نستطيع القول ، بأن العلو الأول والإفساد الأول لبني إسرائيل ، قد تحقّقا في الأرض المقدّسة . وكانت بداية علوهم بملك داود ، ووصل إلى أقصى مداه ، في عصر سليمان عليه السلام . وأما الإفساد فكانت بدايته بعد وفاة سليمان عليه السلام … والسؤال الآن هل تبخّر هذا الملك وهذه المملكة في الهواء … ؟! وهل مرّ ذلك الإفساد دون عقاب … ؟!
وهل تحقق البعث الأول ؟

قال تعالى ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ (( أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ )) ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، (( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا )) ، أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33 المائدة )
وقال أيضا في نفس السورة ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ … (( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا )) ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64 المائدة )
وانظر ما كتبه الله عليهم ، في الآية الأولى ، وما عقب به في الآية الثانية ، حيث أعطى أربع خيارات ، لمجازاة من يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا . والذين لهم دأب على محاربة الله ورسوله بأقوالهم وأفعالهم ، والذين يسعون في الأرض فسادا ، هم اليهود لا غيرهم ، وهذا ما تُقرّره الآية الثالثة . وهذا هو الحكم المُسبق الذي أصدره أحكم الحاكمين ، وأوكل أصحاب البعث الأول ، لتنفيذ خياراته الأربعة مجتمعة فيهم ، بإذن الله .
وقال تعالى ( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26 الأحزاب ) ، وهذا ما حُكم به على يهود بني قريظة بعد هزيمة الأحزاب ، بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال .
وبما أن الإفساد المقترن بالعلو قد تحصّل ، ومن ثم زال ، فلا بد أن يكون أولئك العباد قد بُعثوا عليهم ، فجاسوا خلال ديارهم وخربوها ، وأوقعوا في حكامهم ورؤسائهم وكهنتهم وأحبارهم القتل والتنكيل ، وهدموا المسجد ( الهيكل ) ونهبوا محتوياته من كنوز وأموال ، وسبوا نسائهم وأطفالهم ، وأصبحت بيت المقدس أطلالا تعوي فيها الثعالب ، فحل بهم الخزي والذلّ والعار ، بعد أن رفعه الله عنهم بمنّه وكرمه ، فخانوا ميثاق ربهم ونقضوا عهده ، استكبارا وعلوا في الأرض بغير الحق . حيث كان ذلك حكم الله الذي أنجزه في أسلافهم ، على أيدي أولئك العباد ، فيما يُسمى بالسبي البابلي الموصوف بالتوراة بإسهاب ، والذي يؤكد نفاذ هذا الحكم فيهم ، كما جاء في الآية الكريمة أعلاه . لذلك عقّب سبحانه بعد ذكر الوعد الأول ، بقوله ( وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً (5 الإسراء ) .
بعض الأحكام التي صدرت في حقهم فيما سبق نزول القرآن :

قال تعالى ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169 الأعراف ) .
وقال أيضا ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64 المائدة ) .
وهذه الأحكام هي :
1. استضعافهم واضطهادهم وتعذيبهم من قبل الآخرين ، أينما حلوا وأينما ارتحلوا إلى يوم القيامة . وهذا حكم عامّ ، وأما عقابهم عند مجيء الوعدين ، فهو حكم خاص مستثنى من هذا الحكم .
2. نفيهم من فلسطين وشتاتهم في كافة أرجاء الأرض . مما يؤكد زوال مملكتهم الأولى ، ويهيئ لقيام الدولة الثانية مستقبلا .
3. إلقاء العداوة والبغضاء فيما بينهم إلى يوم القيامة . وإطفاء الحروب التي يُشعلوها ، وإفشال مخططاتهم الساعية إلى الإفساد .
وهل دخلوا الأرض المقدّسة ؟

لو عدنا إلى زمن موسى عليه السلام ، بعد أن وصل وقومه إلى مشارف الأرض والمقدسة ، حيث قال لقومه ( يَقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21 المائدة ) ، والأرض المقدسة هي فلسطين ، ولم تقدّس في القرآن أرض غيرها . وقد وردت هذه العبارة في القرآن مرة واحدة فقط ، وكان بنو إسرائيل آنذاك أمة واحدة ، فامتنعوا عن الدخول إليها ، فحُرموا من دخولها أربعين سنة ، ولم يكن التيه بضياعهم وتشرذمهم في الأرض ، كما قد يتوهم البعض ، وإنما بحرمانهم من الهداية والقيادة برفع النبوة والوحي ، وهذا يؤكد أن موسى عليه السلام ، انتقل إلى جوار ربه قبل أو بداية سنوات التحريم ، ولذلك تجلّت الحكمة الإلهية ، باختيار النقباء الإثني عشر وأخذ الميثاق منهم مسبقا ، لعلمه المسبق بما سيكون منهم . وتُرك أمر بني إسرائيل لأولئك النقباء ، كلٌ حسب السبط الذي ينتمي إليه ، لقيادتهم والفصل بينهم في الأحوال المدنية والشرعية .
وفي نهاية الأربعين سنة ، وصل الله ما كان قد قطعه ، فبعث فيهم نبيا ، ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (246 البقرة ) ، وكلمة ( الملأ ) تعني علية القوم ، وطلب القتال كان لدخول الأرض المقدسة ، التي كان قد كُتب لهم دخولها ، على لسان موسى في الآية السابقة ، وعندما أذن الله لهم بدخولها ، بعد قتال جالوت وجنوده والانتصار عليهم ، بقتل داود عليه السلام لجالوت ، دخلوها مجتمعين كأمة أيضا ، فأقام لهم داود وسليمان عليهما ، دولتهم الأولى وعلوهم الأول .
حصر الفترة الزمنية للإفساد المُذكور في القرآن :

والآن لننتقل إلى الكريمة التي تقول ( وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، (( وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ )) ، وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ، وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ . أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ ، بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ، اسْتَكْبَرْتُمْ ، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87 البقرة ) ، قلنا أن قمة الإفساد هي قتل الأنفس بغير حق ، وأعظمها قتل الرسل والأنبياء ، ولاحظ قوله سبحانه ( تقتلون ) حيث تفيد صيغة المضارع ، الاستمرارية والكثرة في القتل ، وقد ذُكر قتلهم للرسل والأنبياء ( 7 ) مرات ، في مواضع متفرقة من القرآن ، وقد حُصر وقوع هذا القتل منهم في هذه الآية ، بين موسى وعيسى عليهما السلام ، وإذا علمنا أن بني إسرائيل ، كانوا بحاجة إلى الأنبياء ( حبل الله ) لدخول الأرض المقدسة ، لإقامة دولتهم فيها ، ولم يكن فيهم أنبياء في سنوات التحريم ، غير ذلك النبي الذي بُعث عند انقضائها ، والذي توجهوا إليه لطلب المساعدة والنصرة من الله ، لتبين لنا أن قتل الأنبياء ، قد تحصّل منهم ، قبل بعث عيسى عليه السلام ، وهو آخر أنبيائهم ، وبعد وفاة سليمان عليه السلام ، آخر الأنبياء الملوك ، حيث لم تعد بهم حاجة للأنبياء ، ليذكّروهم بشرع الله والالتزام به ، بعد أن أمسى لهم الملك والعلو في الأرض ، فأهواء ورغبات وأطماع ، الذين ( أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) ، والذين ( قست قلوبهم فهي كالحجارة أو شد قسوة ) ، لا تتفق وشرع الله .
نهاية المملكة وخروجهم من فلسطين :

ولو نظرنا في قوله تعالى ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ) ، أي فرقّناهم ، نجد أنه سبحانهأثبت خروجهم ونفيهم من الأرض المقدسة ، وشتاتهم في الأرض على عمومها ، على الأقل قبل بعث محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن ، فهل يُعقل أن أمة بأسرها ، تقوم بالتخلي عن مُلكها وترك أرضها من تلقاء نفسها ورغبة عنها ؟!!! أم أن هناك أمر عظيم نزل بها ، فتركت أرضها قسرا وقهرا ، بعد أن أُزيل ملكها وأفل نجمها ؟!!! وقد ورد ذكر هذا الحدث في القرآن بصيغة الماضي ، بقوله تعالى ( فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ – وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5 الإسراء ) . وبما أن تلك العبارة أثبتت شتاتهم بعد أن كانوا أمة واحدة ، والعبارة ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104الإسراء ) ، تشترط مجيئهم من الشتات والتجمّع في فلسطين ، ولم يرد نص في القرآن ، يُثبت مجيئهم وتجمّعهم من الشتات قبل الإسلام ، لإقامة علوهم الثاني . نستطيع الجزم بأن وعد الأولى ، بقيام المملكة الأولى وزوالها ، قد تحقق ، وأن المرة الثانية قد تحقّقت بمجيئهم وتجمّعهم من الشتات ، لإقامة دولتهم الحالية .
إثبات تواجد اليهود في بابل :

قال تعالى ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ، (1) نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ، كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) (2)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ـ ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) ـ (3)يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ( بِبَابِلَ ) هَارُوتَ وَمَارُوتَ ـ ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ، حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلَا تَكْفُرْ ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) ـ (4)وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ ، وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102 البقرة )
موضوع الحديث ما قبل هاتين الآيتين ، وما بعدهما ، هم اليهود إجمالا . بينما تتعرض الآيتان أعلاه ، لموقف فئة من اليهود المعاصرين لرسالة الإسلام ، من بعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، حيث قام هؤلاء وما زالوا يقومون بثلاثة أفعال :
1. عند مجيء رسول الله عليه الصلاة والسلام ، بصفة مطابقة لما كان بين يديهم من التوراة ، ومجيئه بما يتفق مع ما جاء به أنبياؤهم ، أزاحوا التوراة من عقولهم وقلوبهم وأنكروا ما فيها ، وكتموا ما أخبرت عنه وجاءت به عن الناس ، وأظهروا عدم معرفتهم وعلمهم بأمر هذا النبي ، وعوضا عن اتباعهم لهذا النبي عليه الصلاة والسلام ، كما تأمرهم التوراة :
2. قاموا باتباع ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وحقيقة ما اتبعوه يُبيّنه سبحانه ، بالجملة المعترضة ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ) أي الكفريّات التي ما زالت تتلوها الشياطين على ملك سليمان ، ومجيء الفعل ( تتلوا ) بصيغة المضارع ، يُفيد بأنهم على اتّصال دائم بالشياطين ، وأن الشياطين ما زالت تتحدّث إليهم ، بكفريّات تنسبها إلى سليمان عليه السلام ، يُبرأه سبحانه منها بقوله ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، وعوضا عن تعليم الناس تعاليم التوراة :
3. كانوا وما زالوا ، يُعلمون الناس السحر ، ويعلّمونهم أيضا نوعا آخرا من السحر ، كانوا قد تعلّموه أثناء تواجدهم في بابل ، هو ما أُنزل على الملكين هاروت وماروت ، اللذان لم يُعلّما أحدا من الناس ، إلا وقالا له ، ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلَا تَكْفُرْ ) وحقيقة ما كان يتعلّمه الناس من الملكين في بابل ، يُبيّنه سبحانه بالجملة المعترضة ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ، مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ) .
4. ويُعقّب سبحانه على ما قامت به تلك الفئة بقوله ( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ … إلى آخر الآية) . وهذا ما يقومون به لغاية الآن ، في محافلهم الماسونية ومدارسهم الدينية ، حيث يُمارسون ويُعلّمون منتسبيهم وتلاميذهم ، طقوس عبادة الشياطين ، وفنون السحر والشعوذة .
عقوبتهم في الجزيرة العربية كانت جلاءً وليس عذابا :

وأما عند مجيء الإسلام ، كان جزء منهم متواجد في الجزيرة العربية ، وأخرجوا منها زمن عمر رضي الله عنه ، قال تعالى ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (2 الحشر ) ، والحشر معناه الجمع ، والجمع يختلف عن الجميع ، وقوله ( لأول الحشر ) أي بداية الجمع ، والجمع يكون عادة بعد التشرّد والشتات ، والمقصود هنا الجمع في الدنيا ، وليس الحشر بعد الموت والبعث ، حيث كانت وجهتهم عند الخروج إلى بلاد الشام ، وأما الجلاء الذي حكم الله به عليهم ، في زمن الرسول عليه السلام وصحبه الكرام ، لم يكن عذابا كالموصوف في سورة الإسراء ، لا في الوعد الأول ، ولا في الوعد الثاني ، فكيفية العقاب في المرتين متطابقة ، كما أوضحنا سابقا ، وهذا ما يقرره سبحانه في الآية التالية ( وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ ، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3 الحشر ) ، وقوله تعالى ( لعذّبهم ) ، يفيد بأن الجلاء لم يُعتبر عذابا بمعنى الكلمة ، أما قتل وسبي يهود بني قريظة ، فهو استثناء حصل لخطورة ما قاموا به من خيانة ، في أحرج لحظة ، في تاريخ الأمة الإسلامية .
وإن لم يكن ما تقدّم مقنعا بما فيه الكفاية ، فانظر إلى قوله تعالى ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7 الإسراء ) ، فأي مسجد الذي دخله المسلمون على اليهود آنذاك ، وما هو المسجد المقصود أصلا في هذه الآية ؟! وما صفة العلو الذي كان لهم آنذاك ؟! ، وأما فسادهم وإفسادهم في الجزيرة وغيرها من الأماكن ، فهو مشمول في الآية الكريمة ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64 المائدة ) ، ولاحظ قوله تعالى ( ويسعون ) ، حيث تفيد الاستمرارية والمثابرة ، على الإفساد في الأرض على عمومها ، وهذا هو ديدنهم على مر العصور ، لذلك كانوا عرضة للقتل والتنكيل ، أو النهب والسلب ، أو الطرد والنفي ، أينما حلوا وأينما ارتحلوا ، فطافوا معظم أرجاء من المعمورة وتواجدوا في كل قاراتها ، منذ 3 آلاف سنة واستمر حالهم هذا على مر العصور ، وهذا ما لم يقع في أي شعب من شعوب الأرض ، وكان الاستثناء الوحيد ، هو حصولهم على الدولة في القدس مرتين فقط . وبعد شتاتهم في المرة الأولى ، لم يكن لهم علو ، ولم يكن لهم جمع من الشتات ، الذي هو أحد شروط ومواصفات تحقق الوعد الثاني ، إلا ما نُشاهده الآن على أرض الواقع ، من علوا ظاهر مقترن بالفساد والإفساد ، في الأرض المُقدّسة فلسطين .



 
 توقيع : ابوعبدالعزيز

من السهل أن تحب الناس لكن
من الصعب أن تلقى أنسان يحبك


رد مع اقتباس