عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2013, 06:30 AM   #9


الصورة الرمزية قيس
قيس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1949
 تاريخ التسجيل :  Oct 2012
 أخر زيارة : 01-31-2014 (08:05 PM)
 المشاركات : 6,701 [ + ]
 التقييم :  71584925
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة



المؤسســـة الماليــــــــــــة



لما تولى عثمان الخلافة لم يغير من سياسة عمر المالية، وإن كان قد سمح للمسلمين باقتناء الثروات وتشييد القصور وامتلاك المساحات الشاسعة من الأراضي، فقد زالت عن المسلمين شدة عمر التي كانت ترهبهم وتخيفهم، والتي كانت تحول دون الكثير مما يشتهون، وكان عهده عهد رخاء على المسلمين





أولاً: السياسة المالية التي أعلنها عثمان عندما تولى الحكم:
وجه عثمان كتابا إلى الولاة وكتابا آخر إلى عمال الخراج، وأذاع كتابا على العامة، وقد ذكرتُ نصوصها عند حديثي عن منهجه في الحكم، وفي ضوء تلك النصوص تكون عناصر السياسة المالية العامة التي أعلنها ثالث الخلفاء الراشدين قد قامت على الأسس العامة التالية:
* تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية.
* عدم إخلال الجباية بالرعاية.
* أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين.
* إعطاء المسلمين ما لهم من بيت مال المسلمين.
* أخذ ما على أهل الذمة لبيت مال المسلمين بالحق، وإعطاؤهم ما لهم، وعدم ظلمهم.
* تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء.
* تفادي أية انحرافات مالية يسفر عنها تكامل النعم لدى العامة
ونفصل فيما يلي هذه الأسس:


1- نية عثمان بن عفان تطبيق سياسة مالية عامة:
مما لا شك فيه أن الخليفة الثالث عثمان بن عفان عزم على تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية؛ فقد بويع على أساس تطبيق حكم الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسياسة الخليفتين قبله، وقد طبق أبو بكر ما نزل به القرآن وما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالسياسة المالية وغيرها من الأحكام، وقام عمر بتطوير المؤسسة المالية ونظم قواعدها وأرسى مبادئها وزاد مواردها ورشد إنفاقها، ونهج عثمان طريقهم, واجتهد في بعض الأمور القابلة للاجتهاد، فنفذ حكم الله في الأرض في قضايا الأموال وغيرها؛ فأشرف على دفع الزكاة لبيت المال، وتوزيعها على مستحقيها، وأهل الكتاب في دفعهم الجزية لبيت مال الدولة الإسلامية، وبذلك يدخلون في ذمتها تحميهم وتوفر لهم الأمان وتضفي عليهم سائر خدماتها العامة، والمجاهدون يغنمون الأموال ويرسلون خمسها لبيت مال المسلمين، ويقوم بيت المال بتوزيعها على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وغيرها من وجوه الإنفاق طبقا لقوله تعالى:
"وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] وغير ذلك من مصادر الدولة المعروفة. وقد تميزت المالية العامة في عهد ذي النورين والخلفاء الراشدين بأنها مرتبطة بالإسلام وتطبيق تعاليمه وحماية إيراداته، ويساند الإنفاق العام فيها نشر راية الإسلام وخير المسلمين، وهي مرشدة للإنفاق؛ لأن تعاليم الإسلام تمنع الإسراف وتحاربه، والله لا يحب المسرفين، وتمنع السفهاء من التحكم في الأموال وهي مالية عامة خيرة؛ لأن بعض مواردها العامة توجه للبنية الضعيفة من الرعية، وهي نقية من الدنس، ولا تتضمن مواردها كسبًا من حرام؛ لأن الله لا يبارك
الكسب الحرام.
2- عدم إخلال الجباية بالرعاية:
ينبه عثمان بن عفان في كتابه للولاة أن جباية أموال بيت المال كادت تطغى على الواجب الأول للولاة وهي رعاية الرعية، وذلك أن الجباية أحد واجبات الرعية المكلف بها رئيس الدولة الإسلامية، فلا يصح أن تطغى على سائر الواجبات وقد استنبط الفقهاء من الهدي النبوي والعهد الراشدي تكاليف الرعاية؛ أي واجبات الخليفة لتحقيق رعاية الأمة كما يلي:
قال الماوردي: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.
والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين؛ حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
والثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعاش وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغرير بنفس أو حال.
والرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا.
والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة إليه حتى يسلم أو يدخل الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره (الإسلام) على الدين كله.
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه نصًّا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
والثامن: تقدير العطايا وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
والتاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.
والعاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة وبإيجاز، فإن واجبات الخليفة تتفرع عن شرطي عقد البيعة، وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا اللذين هما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو خليفته، وإن كان الماوردي والفراء المتعاصران قد تطابقت تحديداتهما لواجبات الإمام، فإنما ذلك اجتهاد منهما حسب حاجة الأمة في عصرها، ولا ينبغي أن تقتصر حقوق الأمة على ما عدده عالم من علمائها أو أكثر مهما بلغ من فضل وسعة علم، ومهما كانت نظرته للموضوع شاملة، هذا إن كان العالم معاصرًا، فكيف إن كانت آراؤه واجتهاداته قد سبقنا بها بقرون. ولذا فينبغي أن تحدد واجبات الإمام بناء على الشرطين العامين لصحة عقده وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا، وينبغي أن تقوم لجان من علماء الأمة بتحديد ذلك لأهل زمانهم هذه بعض تكاليف الرعاية كما أوردها الفقهاء، وهي قابلة للتطوير بما يلائم
تطور الأزمان والعصور بحيث لا يخالف التطوير نصًّا من نصوص القرآن أو حكمًا من أحكام الدين

3- أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين:
عمال الخراج نواب عن الدولة في استئداء حقوق بيت المال، فإذا أخذوا ما على المسلمين بالحق أدوا واجبهم المنوط بهم، وإذا غالوا في جباية حقوق بيت المال ظلموا الممولين وألحقوا بهم الضرر وحمَّلوهم فوق ما يطيقون، والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من المغالاة في استئداء حقوق بيت المال؛ فقد نهى عن جباية كرائم الأموال في الزكاة، وأمر بالتخفيف في استئداء زكاة الثمر

4- إعطاء المسلمين ما لهم من بيت المال بالحق:
عطاء بيت المال للمسلمين إما أن يكون مباشرا كصرف الزكاة للمستحقين لها، وما يقضي به نظام الأعطيات من توزيع فائض الأموال على المسلمين، أو يكون العطاء العام غير مباشر يتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للرعية، وهذه ينفق عليها من بيت مال المسلمين. وفي كلا العطاءين ينبغي أن يتسم العطاء بالحق، فلا يجوز في العطاء المباشر أن يخالف الأسس التي تحددت لوضعه محاباة لبعض الأفراد أو حرمانا أو نقصانا للبعض الآخر دون مبرر، ولا يجوز أن يتأخر العطاء عن موعده بسبب تعقد الإجراءات أو كثرة الحجب التي تحجب أرباب الظلامات عن الوصول لمن بيدهم أمر العطاء لبحث ظلامتهم من تأخير العطاء أو قلته، أو عدم وصوله إليهم، ولا يجوز في العطاء غير المباشر المتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للشعب أن تكون المنفعة لفرد معين؛ بل يجب أن يعود نفعها على الأمة جمعاء

5- عدم ظلم أهل الذمة وأخذ ما عليهم لبيت المال بالحق وإعطاؤهم حقوقهم بالحق كذلك:
لا يجوز ظلم أهل الكتاب عند أخذ الجزية منهم؛ لأن أهل الكتاب من الذميين الذين يقيمون في الدولة الإسلامية وهم في ذمتها ورعايتها ما داموا يؤدون الجزية، وقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ولى عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى عنده ناداه فقال: ألا من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة.واستنادا لذلك فقد أوصى بهم عمر بن الخطاب حين موته: أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يُكلفوا فوق طاقتهم فإذا آذى عمال الجزية الذميين أو كلفوهم فوق طاقاتهم أو عذبوهم، أو أخذوا الجزية من الشيخ الكبير الذي لا شيء له ولا يستطيع العمل، أو أخذوها من الذمي الذي أسلم، كان هذا لونا من ألوان الظلم الذي نبه عليه الخليفة الثالث في كتابه إلى عمال الخراج بعد ارتكابه مستندا في ذلك لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلمهذا وعلاوة على الجزية يؤدي أهل الذمة الذين يزرعون أرض الخراج -وهي التي آلت للدولة الإسلامية كغنيمة نتيجة للفتح الإسلامي- ما يستحق عليها من خراج لبيت مال المسلمين، ويجب أن يراعى عمال الخراج الحق في تحديد قيمته المستحقة على الأراضي التي يزرعها أهل الذمة، وذلك بمراعاة العوامل التي تحكم تحديده؛ لأن إغفالها كلها أو بعضها يوقع الظلم بأهل الذمة الذين يزرعونها، وهذه العوامل أربعة:
* ما يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها.
* ما يختص بالزرع من اختلاف أنواعه من الحبوب والثمار، فمنها ما يكثر ثمنه ومنها ما يقل ثمنه فيكون الخراج بحسبه.
* ما يختص بالسقي والشرب؛ لأن ما التزم المئونة في سقية النواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله سقي السيوح والأمطار.
* أن لا يستقضي في وضع الخراج غاية ما تحمله ليجعل فيها لأرباب الأرض بقية يجبرون بها في النوائب والجوائع هذا وإذا كانت الدولة الإسلامية قد أبرمت عهدا أو عقدت صلحا مع أهل الكتاب، فواجب الدولة الإسلامية وعمال خراجها أن يلتزموا بما ورد بها من شروط, ومنها الشروط التي تحدد قيمة ما يدفعونه من جزية أو خراج؛ لأن المسلمين إذا أبرموا عقدا أو عهدوا عهدا التزموا بالوفاء بالعقود والعهود

6- عدم ظلم اليتيم:
لليتيم حقوق في المال العام بنصوص القرآن الكريم، فهو من المستحقين لأموال الزكاة إن كان فقيرا، قال تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة: 60].
ولليتيم نصيب في خمس الغنائم تطبيقا لقوله جل وعلا: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] ولليتيم نصيب في عطاء بيت المال، فقد كان يفرض للأطفال عموما ومنهم يتامى الأطفال، وإذا كان اليتيم غنيا فيؤدي الزكاة المفروضة على أمواله إذا توافرت, وواجب المصدق أن يأخذ الزكاة بالحق والعدل حتى لا يذهب ظلمه بمال اليتيم أو جزء منه بغير وجه حق

7- تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء:
قال تعالى: "إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء: 58].
وقال تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" [المؤمنون: 8].
طالب الخليفة الراشد عثمان بن عفان عمال الخراج أن يتحلوا بالأمانة وهي صفة لازمة لجميع من يشتغلون بالأموال العامة، وإذا لم تتوافر فيهم هذه الصفة جاروا على حقوق بيت المال وجاروا على الممولين، وانتكست العلاقة بين بيت المال والممولين. والقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تنبه وتحض على التزام الأمانة، وطالب الخليفة عثمان كذلك عمال الخراج بأن يتحلوا بالوفاء. وقد ورد الوفاء مطلقا في كتاب الخليفة؛ فيشمل الوفاء لبيت المال بمراعاة أخذ حقوقه كاملة من الرعية، والوفاء للممولين بعدم ظلمهم بالمغالاة في تحديد الفرائض المالية المطلوبة منهم، والوفاء لأهل الذمة بالرفق وحسن المعاملة وتطبيق ما تضمنته شروط الصلح معهم من جزية وخراج دون زيادة

8- أثر تكامل النعم على مسار الأمة:
لم يرد عثمان بن عفان أن يترك العامة دون تبصيرهم، فحذرهم من أن تجذبهم الدنيا إلى ملاذها ومتاعها، وخشي أن أمر الأمة صائر إلى الابتداع بعد أن توفرت لهم ثلاث: وهي تكامل النعم، وبلوغ أولاد السبايا، وقراءة الأعاجم فعثمان أدرك أن تكامل النعم لدى البعض سيميل بأولي النعم عن المسار السليم؛ لأن تكامل النعمة بزيادة الأموال لدى أفراد الرعية قد يفسدهم بسبب ما ينفقونه على الترف والفساد قال تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [الإسراء: 16].


9- المقارنة بين السياسة العمرية والعثمانية:
هذه السياسة المالية التي أعلنها ذو النورين تكاد تتفق مع السياسة العامة المالية التي نفذها الفاروق حين ولي أمر المسلمين، فقد أعلن ونفذ: أن المال العام لا يصلحه إلا خِلالٌ ثلاث؛ أن يؤخذ بالحق ويعطى في الحق ويمنع في الباطل فالسياسة العمرية والعثمانية في المال تنبعان من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الإسلام ومبادئه وأصوله وقواعده








ثانيًا: توجيهات عثمانية توضح للناس قواعد زكاتهم:

قال عثمان : هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم، ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا، ومن أخذ منه حتى يأتي هذا الشهر من قابل، قال إبراهيم بن سعد: آراه يعني شهر رمضان. وقال أبو عبيد: وقد جاءنا في بعض الأثر أن هذا الشهر الذي أراده عثمان هو المحرم، وبهذا القول أكد عثمان المبادئ التالية:
أ- مبدأ سنوية الزكاة؛ إذ يشترط لأداء الزكاة -ما عدا زكاة الزروع- حوَلانَ الحول، ويظهر ذلك من قول عثمان أن من أخذ منه لا يؤدي زكاة عن أمواله حتى يأتي نفس الشهر في السنة التالية، فلا تتكرر عليه الزكاة في عام واحد.
ب- إذا أخذنا بقول أبي عبيد أن الشهر الذي قصده عثمان بن عفان هو شهر محرم، فكأنه أراد أن تكون السنة المالية الإسلامية مطابقة للسنة الهجرية؛ فعلى المسلمين بعد مرور سنة هجرية كاملة على ما لديهم من أموال أن يسددوا ما عليها من زكاة في أول السنة الهجرة التالية، وهو شهر المحرم إذا توافرت شروطها.
ج- ويدعو عثمان بن عفان الناس إلى حساب وعاء الزكاة، فيطلب منهم أداء ما عليهم من ديون حتى تؤخذ الزكاة على الباقي. ولعل عثمان أراد أن يستحث الناس على أداء ما عليهم من ديون؛ وفاء منهم للدائنين، وتسهيلا لحساب المال الخاضع للزكاة، وحتى يقطع بجدية الدين وعدم تطرق الصورية إليه
د- يقول عثمان : ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا. وبذلك يفتح عثمان بن عفان الدعوة إلى التطوع، فقد يرى بعض المسلمين أنهم لا يستحق عليهم زكاة، ومع ذلك يرون التطوع بأداء صدقات من أموالهم يؤدونها لبيت المال، فيقبلها منهم ويضمها إلى موارد الزكاة، وتصرف الدولة منها على نفس مصارف الزكاة.وقد يكون قول عثمان : ومن أخذنا منه لم نأخذ منه حتى يأتينا بها تطوعا، أنه يقصد أن لا يجبى بيت المال صدقة الذهب والفضة إلا إذا أتى بها صاحبها لبيت المال، وأما الصدقة التي يكره الناس عليها ويجاهدون على منعها فهي صدقة الماشية والحرث والنخل، وبذلك يكون عثمان قد ترك لأصحاب الأموال أداء الزكاة على ما يعرف بالأموال الباطنة، وهي أموال الذهب والفضة والتجارة، ولا يقبلها منهم إلا إذا أتى بها صاحبها تطوعا يقول في ذلك أبو عبيد: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يبعث مصدقيه إلى الماشية فيأخذونها من أربابها بالكره منهم وبالرضا، وكذلك كانت الأئمة بعده، وعلى منع صدقة الماشية قاتلهم أبو بكر، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد بعده أنهم استكرهوا الناس على صدقات الصامت، إلا أن يأتوا بها غير مكرهين وإنما هي أماناتهم يؤدونها، فعليهم فيها أداء العين والدين؛ لأنها ملك أيمانهم وهم مؤتمنون عليها، وأما الماشية فإنها حكم يحكم بها عليهم، وإنما تقع الأحكام فيما بين الناس على الأموال الظاهرة وهي فيما بينهم وبين الله على الظاهرة والباطنة جميعا

1- رأيه في زكاة دين الدائن:
عن السائب بن يزيد أن عثمان كان يقول: إن الصدقة في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه، والذي هو ملئ تدعه حياء أو مصانعة ففيه الصدقة.
وعن عثمان قال: زكِّه -يعني الدين- إذا كان عند الملئ فمن هذين القولين لعثمان بن عفان يبين أن الصدقة واجبة على الدين للدائن على المدين الملئ، ويستطيع أن يحصل من المدين على دينه ولكن يستحي أن يذكر المدين به, أو أن الدائن يدع دينه للمدين مصانعة له، والمصانعة تعني سكوت الدائن عن المطالبة بدينه نظير منفعة يحصل عليها من المدين.

2- اقتراضه من مصرف الزكاة وإنفاقه للمصالح العامة:
أخذ عثمان من أموال الزكاة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب على المرافق العامة، فأنفق على الجهاد على أن يرد ذلك إذا اتسع المال لرده، ومن حق الإمام أن يقترض من مصرف لمصرف، لا يخالف بذلك الدين، ولا يغير سنة موروثة ما دام مصمما على أن يرد على أموال الصدقة ما أخذ منها.
وتذهب بعض الآراء إلى أن أحد مصارف الزكاة وهو مصرف «في سبيل الله» يعطي للغازي في سبيل الله من أموال الزكاة؛ لأن انقطاعه للجهاد أقعده عن العمل والكسب، وليس هذا من باب التشجيع على البطالة، فهذا الصنف قد آثر مصلحة الإسلام على مصلحة نفسه, وترك العمل لشخصه ليعمل في مجال أرحب وأوسع وهو العمل لإعلاء كلمة الله ونشر دينه في المعمورة. ويرى بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المنافع العامة وما تقتضيه حاجات الأمة.

3- الإنفاق من الزكاة على الطعام للفقراء وأبناء السبيل:
سَنَّ عثمان سُنَّة جديدة، فكان يضع الطعام في المسجد في رمضان وقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، وابن السبيل، والمعترين. والخليفة عثمان بذلك يكرم المسلمين من بيت المال، وفي ذلك اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان. وهذه السنة التي استنها عثمان ترغب المسلمين في الاعتكاف في المساجد ما دام أكلهم معدًّا، وفي ذلك تشجيع على إحياء سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف.

4- إنشاء منازل للضيافة من أموال الزكاة:
بلغ عثمان أن أبا سمال الأسدي ومعه نفر من أهل الكوفة ينادي مناد لهم إذا قدم الميار: أن من كان من القبائل ليس لقومهم بالكوفة منزل فمنزله على أبي سمال، فاتخذ عثمان بعض الدور كمنازل للضيافة ينزل بها الغرباء ممن ليس لهم منزل، ومن هذه الدور منزل عبد الله بن مسعود في هذيل، وكان الأضياف ينزلون داره في هذيل إذا ضاق عليهم ما حول المسجد.

5- العطاء من بيت المال لكل مملوك:
مما زاد عثمان على يده أن رد على كل مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة من كل شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم. والغالب على أن مصدر هذه الأموال التي وزعها عثمان على كل مملوك هو أموال الزكاة باعتبار أن لهم فيها نصيبا؛ لأنهم أحد المصارف الثمانية التي حددتها آية الزكاة، وهي مصرف "وَفِي الرِّقَابِ"[التوبة: 6].


ثالثـًا: خمس الغنائم:
بدأ الجهاد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, واستمر في عهد أبي بكر وعمر, وكذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكانت نتيجة ذلك انتشار الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية، وكانت فتوحات عهد عثمان كبيرة حققت غنائم كثيرة إلى بيت المال، منها الخمس، كما أنه آل إلى بيت المال جزية من آثر البقاء على دينه من أهل الكتاب ولم يحارب، فهناك ارتباط إذن بين بيت المال والفتوحات الإسلامية، فقد قام بيت المال في عهد عثمان في تمويل هذه الفتوحات، سواء بما كان يدفعه للجنود من مرتبات أو لشراء الأسلحة والعتاد بجانب التطوع بالأموال والأنفس، وإذا تحقق النصر فرضت الجزية على من لم يسلم من أهل الكتاب والخراج على الأرض التي أخذت عنوة، وإذا أسلم أهل البلاد سددوا الزكاة إذا بلغت أموالهم نصابا وتوافرت شروطها باعتبارها من أركان الإسلام، ولا يكمل إسلام المسلم إلا بأدائها، وهذه كلها تساهم في زيادة الإيرادات العامة للدولة الإسلامية، وأحل الله للمسلمين غنائم الحرب، ويوزع أربعة أخماسها بين الفاتحين، والخمس الباقي يؤول لبيت مال المسلمين
وفيما يلي بعض المسائل التي أسفر عنها تطبيق السياسة المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بشأن خمس غنائم الفتوحات:

1- لم يسهم للصبي في الغنائم في عهد عثمان بن عفان:
عن تميم بن المهري قال: شهدت فتح الإسكندرية في المرة الثانية، فلم يسهم لي حتى كاد أن يقع بين قومي وبين قريش منازعة، فقال بعض القوم: أرسلوا إلى بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني، فإنهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسألوهما عن هذا، فأرسلوا إليهما فسألوهما فقالا: انظروا فإن كان أنبت فأسهموا له، فنظر إليَّ بعض القوم فوجدوني قد أنبت فأسهموا لي ومعنى ذلك أنه لا يسهم للصبي ولا للمرأة، إنما يرضخ لهم؛ أي يعطون شيئا قليلا لمساعدتهم في غزوات المسلمين، وهذا ما كان يطبق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

2- السلب للقاتل في عهد عثمان كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
السلب هو ما كان على القتيل في الحرب وما كان من سلاح، وما كان تحته من فرس، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلب للقاتل؛ فعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «من قتل قتيلا له بينة فله سلبه». ومفاد هذا الحديث أنه لا يستحق للقاتل السلب إلا بعد أن يقيم البينة على أنه هو الذي قتله، حتى إذا تنازع اثنان كل منهما يدعى أنه قتله فالسلب لمن يقيم البينة منهما وقد حدث بعد انتقاض الإسكندرية وجاءت الروم وعليهم منويل الحصى وأرسوا بالإسكندرية، وتركهم عمرو حتى يسيروا إليه فيصيبوا من مروا به في البلاد فخزي الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورهم، ويأكلون أطعمتها وينتهبون ما مروا به، فلم يعرض عمرو حتى بلغوا نفيوس فلقوهم في البر والبحر، فحاربوا بالنشاب ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين في البر واستمروا في حرب النشاب، وبرز بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز فبرز له رجل من زبيد يقال له (حومل) يكنى أبا مذجح، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف، وألقى حومل رمحه وأخذ بسيفه، وجعل عمرو يصيح: أبا مذجح فيجيبه: لبيك، والناس على شاطئ النيل في البر على تعبئتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيفين ثم حمل عليه البطريق فاحتمله، ثم أخذ حومل خنجرا كان في منطقته أو في ذراعه فضرب به نحر عدوه فأوتر قوته فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمة الله عليه، ثم شد المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم وقتل منويل الحصى

3- قيمة الغنائم ونصيب بيت المال في أحد فتوحات عثمان:
من حديث عبد الملك بن مسلمة عن غيره قال: غزونا مع عبد الله بن سعد إفريقية فقسم بيننا الغنائم بعد إخراج الخمس، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، للفرس ألفا دينار ولفارسه ألف دينار، وللراجل ألف دينار، فقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام فدفع لأهله بعد موته ألف دينار.ومن حديث لعثمان بن صالح وغيره قال: فكان جيش عبد الله بن سعد ذلك عشرين ألفا، ومن المعروف أن يؤول الخمس لبيت المال، استنادا إلى قول الله تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] وقد رفع نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم وذي القربى في عهد أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجِّه إلى السلاح والكراع، وسايره عمر بن الخطاب من بعده في التطبيق، وكذا عثمان بن عفان ، والأربعة أخماس الباقية من الغنائم توزع على الفاتحين بنسبة 3 للفارس وفرسه، 1 للراجل. فمن الحديثين السابقين يمكن حساب قيمة الخمس الذي آل لبيت المال وكذلك قيمة الغنائم كلها، فبافتراض أن الفوارس عشر الجيش الذي بلغ عشرين ألفا، وأن الباقين من الراجلين يكون الحساب كالآتي:
2000 فارس صلى الله عليه وسلم 3000 دينار = 6000.000 دينار.
18000 راجل صلى الله عليه وسلم 1000 دينار = 18000.000 دينار.
مجموع ما خص المحاربين = 24 مليون دينار، وهو ما يمثل أربعة أخماس قيمة الغنائم، ويكون نصيب بيت المال خمس الغنائم؛ أي = 6 ملايين دينار، ويكون مجموع ما غنمه المسلمون = 30 مليون دينار

4- الإنفاق العام من خمس الغنائم:
ينفق خمس الغنائم طبقا لنص الآية للرسول صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بحق الخمس لكل منهم، وأنه بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم آل نصيبه ونصيب ذي القربى إلى بيت المال لينفق منها على الكراع والسلاح، وقد استنفد الخليفة الراشد عثمان نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذي القربى الذي آل إلى بيت المال على الإنفاق على الكراع والسلاح لكثرة الفتوحات التي تمت في عهده وما استلزمته من أسلحة وخيول

5- نجاح السياسة المالية في تمويل فتوحات الإسلام في عهد عثمان:
من ضمن التحديات التي واجهها عثمان انتكاس بعض البلاد المفتوحة، واستطاع عثمان إجبار البلاد التي نقضت العهد على الالتزام بعهودهم مع الدولة الإسلامية والانصياع لحكمها.
وفي ضوء ما تم من فتوحات جديدة فإنه يمكن القول: إن تنفيذ السياسة المالية فيما يتعلق بهذه الفتوح قد أسفر عن قيام المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بالمطلوب منها، سواء من ناحية تمويلها لهذه الفتوح أو بما حققته الانتصارات من غنائم كثيرة حصل بيت المال على نصيبه منها أو من موارد أخرى، وهي زكاة من أسلم من أهل الأمصار، وجزية من أبى الإسلامَ من أهل الكتاب وخراج أراضيهم





رابعًا: الإيرادات العامة من الجزية في عهد عثمان :

1- استقرار المسائل الفنية للجزية في عهد عثمان :
استقرت أحكام الجزية وقواعدها ونظام تطبيقها وتحصيلها في عهد عمر بن الخطاب، ولذلك كان دور بيت المال في عهد عثمان أن يتلقى ما يتم تحصيله من جزية بعد الاتفاق على قيمتها، وأن تقر الدولة ما تم عقده من صلح في عهود سابقة أو إقرار صلح جديد، وأن تتكفل الدولة لمن أدوا الجزية بالحقوق التي تترتب على هذا الأداء

2- نماذج مما آل لبيت المال من إيرادات الجزية:
أ- غزا الوليد بن عقبة في إمارته على الكوفة في عهد عثمان أذربيجان، وصالح أهلها على ثمانمائة ألف درهم حبسوها عند وفاة عمر، فوطئهم بالجيش وانقادوا له وقبض
منهم المال
ب- لما وجه عثمانُ عبدَ الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وكان الذي صالحهم عليه عبد الله ثلثمائة قنطار ذهب (ولعل ذلك يعادل المبلغ الأول).
ج- صلح قبرص وقع على جزية سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين
ح- صالح سعيد بن صالح أهل جرجان وكان يجبون أحيانا مائة ألف، ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانا مائتي ألف وأحيانا ثلاثمائة ألف
د- غلب عبد الله بن عامر على نيسابور وخرج إلى سرخس، فأرسل إليه أهل مرو يطلبون الصلح، فبعث إليهم ابن حاتم فصالح مرزبان مرو على ألفي ألف، وقال آخر: صالحهم على ستين ألف درهم
و- سار الأحنف بن قيس إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضي منهم بذلك، واستعلم ابن عمه وهو أسيد بن المتشمس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه

3- عثمان بن عفان ينفذ كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر أهل نجران على شروط اشترطها عليهم واشترطوها هم، وكتب لهم بذلك كتابا يوضح هذه الشروط ومنها دفعهم الجزية ومقدارها، ثم جاءوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فكتب لهم أبو بكر كتابا بهذه الشروط، ثم جاءوا من بعد أن استخلف عمر إليه، وكان عمر قد أجلاهم عن نجران اليمن وأسكنهم بنجران العراق؛ لأنه خافهم على المسلمين وكتب لهم كتابا، فلما قُبض عمر واستخلف عثمان بن عفان أتوه إلى المدينة، فكتب لهم إلى الوليد بن عقبة وهو عامله الكتاب التالي: (بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمانَ أميرِ المؤمنين إلى الوليد بن عقبة سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الأسقف والعاقب وسراة أهل نجران الذين بالعراق أتوني، فشكوا إليَّ وأروني شرط عمر لهم، وقد علمت ما أصابهم من المسلمين، وإني قد خففت عنهم ثلاثين حلة من جزيتهم وتركتها لوجه الله تعالى جل ثناؤه، وإني وفيت لهم بكل أرضهم التي تصدق عليهم عمر عقبى مكان أرضهم باليمن، فاستوصِ بهم خيرا فإنهم أقوام لهم ذمة. وكانت بيني وبينهم معرفة، وانظر صحيفة كان عمر كتبها لهم فأوفهم ما فيها، وإذا قرأت صحيفتهم فارددها عليهم، والسلام وكان ذلك في النصف من شعبان سنة سبع وعشرين.


ومما سبق يتضح منه أمور:
أ- أن عثمان أوفى بعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد صاحبه -رضي الله عنهما- من بعده، وأن ذلك ينبع من مبدأ عام في الإسلام، وهو أن من عقد عقدا أو عهد عهدا أو وعد وعدا أوفى به.
ب- خفف عثمان عنهم الجزية ووفى لهم بكل أرضهم، وطلب من عامله الوليد بن عقبة أن يوفي لهم بما ورد في كتاب عمر ، وأن يستوصي بهم خيرا لأنهم أقوام لهم ذمة.

4- أهل الكتاب في ذمة المسلمين ما داموا يؤدون الجزية:
بعد انتصار عمرو بن العاص في الإسكندرية، وكان قد جمع من القرى أثناء الحرب ما أصاب أهل القرى، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض، فقالوا: قد كنا على صلحنا، وقد مر علينا هؤلاء اللصوص (أي الروم) وأخذوا متاعنا ودوابنا، وهو قائم بين يديك، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه، وأقاموا عليه البينة. وقال بعضهم لعمرو بن العاص: ما حل لك ما صنعت بنا، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمتك ولم ننقض، فأما من نقض فأبعده الله فانظر كيف نظام الجزية يرتب حقوقا تمسكوا بها، وهي حمايتهم نظير ما يدفعون بالرغم من أنهم لا يشتركون في الدفاع عن البلاد مع المسلمين، وإنما يدفعونها نظير حقوق يحصلون عليها من الدولة الإسلامية، ومن هذه الحقوق حق الحماية وحق الرعاية، وقد أقرهم عمرو بن العاص على هذه الحقوق ورد إليهم أموالهم

5- مشاركة أهل الذمة في الأعباء العامة في عهد عثمان:
ومما يذكر بشأن فتح الإسكندرية الثاني في خلافة عثمان بن عفان مما يتصل بالجزية أن صاحب اخنا -وكان اسمه طلما-، قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصبر لها؟ فقال عمرو -وهو يشير إلى ركن كنيسة-: إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب اخنا فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله وأسر، فأتي به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، وقيل: إن عمرا لما أتى به سوَّره وتوَّجه وكساه برنس أرجوان، وقال له: ائتنا بمثل هؤلاء، فرضى بأداء الجزية، فقيل لطلما: لو أتيت ملك الروم، فقال: لو أتيته لقتلني، وقال: قتلت أصحابي وعندما نحلل قول عمرو بن العاص: إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، نستنتج بعض المبادئ للسياسة المالية في عهد عثمان بالنسبة لغير المسلمين، منها:
أ- أهل الذمة يساهمون في بيت مال المسلمين بما يؤدونه من جزية، فهم خزانة لبيت المال، يحصل منها بيت المال على نصيبه في أموالهم على هيئة جزية.
ب- أن هذا النصيب في أموال أهل الذمة يتحدد في ظل الأعباء الملقاة على الدولة، فإن كبر هذا العبء ارتفعت قيمة الجزية، وإن خف هذا العبء خفت قيمة الجزية.
ج- هذا التحول في قيمة الجزية -ارتفاعا وانخفاضا- مع أعباء الحكم ينبثق من مبدأ المشاركة المالية من مواطني الدولة في الأعباء، بحيث يساهم كلٌّ على قدر طاقته وبما يحقق العدالة في توزيع الأعباء، وفي ظل الوصايا التي أوصى بها الرسول الكريم بحسن معاملة أهل الذمة عامة.







خامسًا: الإيرادات العامة من الخراج والعشور في عهد عثمان:


1- الخراج:
امتدت فتوحات الإسلام في عهد عثمان بن عفان ، ونتج عن هذه الفتوحات أن دخلت الأرض الزراعية للبلاد المفتوحة في حوزة الدولة الإسلامية، وكان عمر قد اعتبرها فيئا للمسلمين، وأبقى عليها أهلها من أهل الكتاب الذين آثروا الإبقاء على دينهم يزرعونها، ويؤدون عنها خراج الأرض لبيت مال المسلمين، وقد ساهم خراج هذه الأراضي في زيادة إيرادات بيت المال في عهد عثمان بسبب امتداد الفتوحات الإسلامية في عصره.

2- عشور التجارة:
استقر نظام العشور في عهد الفاروق على الأسس والقواعد التي وضعها عمر ، وفي عهد عثمان بن عفان يبدو بصفة عامة أن إيرادات بيت المال زادت من عشور التجارة نتيجة لزيادة رقعة الدولة الإسلامية، بسبب الفتوحات التي تمت في عهده ونتيجة لزيادة الثروات لدى البعض، مما زاد القوة الشرائية بصفة عامة خصوصا في السنوات الأولى في عهد عثمان بن عفان التي اتسمت بالاستقرار، وزيادة القوة الشرائية تزيد الطلب على السلع، وزيادة الطلب على السلع تدعو إلى تنشيط استيرادها وخضوعها لعشور التجارة متى توافرت شروط الإخضاع، ومن العوامل التي أدت إلى زيادة حصيلة عشور التجارة في عهد عثمان بن عفان ارتفاع الأسعار، وارتفاع أسعار السلع يؤدي بالتالي إلى زيادة حصيلة عشور التجارة منها, لأنها ضريبة قيمية تؤخذ نسبة معينة على قيمة السلعة، وليس نوعية تؤخذ من نوع السلعة








سادسًا: سياسة عثمان بن عفان في إقطاع الأرض:
مضى أبو بكر في تطبيق السياسة النبوية في إقطاع الأراضي للناس طلبا لاستصلاحها؛ فقد أقطع الزبير بن العوام أرضا مواتا ما بين الجرف وقناة، وأقطع مجاعة ابن مرارة الحنفي الخضرمة (قرية كانت باليمامة). وأراد إقطاع الزبرقان بن بدر، ثم عدل عن ذلك لاعتراض عمر ، كما أراد إقطاع عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي أرضا سبخة (ليس فيها كلأ ولا منفعة) أرادا استصلاحها، ثم عدل عن ذلك أخذًا برأي عمر في عدم الحاجة لتأليفهما على الإسلام، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله -عز وجل- قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما.
ومن الواضح أن اعتراض عمر ليس على مبدأ الإقطاع لاستصلاح الأراضي بل على أشخاص بعينهم لا يرى تأليفهم على الإسلام، وقد توسع عمر في إقطاع الأرض لغرض استصلاحها جريا على السياسة النبوية، فقد أعلن: يا أيها الناس، من أحيا أرضًا ميتًا فهي له وهناك آثار ضعيفة تؤكد انتزاع عمر ملكية الأرض المقطعة إذا لم يتم استصلاحها. وتحدد رواية ضعيفة لذلك ثلاث سنوات من تاريخ الإقطاع، وقد ثبت إقطاع عمر لخوان بن جبير أرضا مواتا, وللزبير بن العوام أرض العقيق جميعها، ولعلي بن أبي طالب أرض ينبع، فتدفق فيها الماء الغزير فأوقفها علي صدقة على الفقراء
ولما تولى عثمان الخلافة توسع في الإقطاع وخاصة في المناطق المفتوحة؛ حيث ترك عدد من الملاكين أراضيهم فارين، فصارت صوافي تقوم الدولة باستثمارها، فأقطع عثمان منها خوفا من بوارها، ولكن الإمام أحمد يرى أنه أقطع من السواد أيضا، ومما لا شك فيه أن الصوافي قد يقع كثير منها في أرض السواد، وعلى أية حال فإن الإقطاع من الصوافي رفع غلتها من تسعة ملايين درهم (9000000 درهم) سنويا في خلافة عمر إلى خمسين مليون درهم (50.000.000 درهم) في خلافة عثمان ، مما يدل على نجاح سياسته في إدارة الصوافي. وتذكر المصادر قائمة بأسماء الذين أقطعهم عثمان ومعظمهم ليسوا من قريش، ومعظم الروايات في إقطاع عثمان t ضعيفة، وهي بالجملة تثبت توسعه في الإقطاع، ومن المفيد ذكر أسماء المقطعين وهم:
* عبد الله بن مسعود الهذلي (أرض بين نهري بيل وبين السواد).
* عمار بن ياسر (أستينيا).
* خباب بن الأرت التميمي (صعنبي – قرية بالسواد).
* عدي بن حاتم الطائي (الروحاء – قرية من قرى بغداد على نهر عبس)
* سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي (قرية هرمز ببَرِّ فارس).
* الزبير بن العوام.
* أسامة بن زيد الكلبي.
* سعيد بن زيد العدوي القرشي.
* جرير بن عبد الله البجلي (أرض على شاطئ الفرات).
* ابن هبار.
* طلحة بن عبيد الله التميمي القرشي (النشاستبح - ضيعة بالكوفة).
* وائل بن حجر الحضرمي (أرض توالي قرية زرارة بالكوفة).
* خالد بن عرفطة القضاعي (أرض عند حمام أعين بالكوفة).
* الأشعث بن قيس الكندي (طيزنباذ - موضع بين الكوفة والقادسية).
* أبو مريد الحنفي (أرض بالأهواز على نهر تيري).
* نافع بن الحارث بن كلدة الثقفي (قطيعة بشط عثمان بالبصرة)
* أبو موسى الأشعري (قطيعة بحمام عمرة).
* عثمان بن أبي العاص الثقفي (شط عثمان بالبصرة).
ويبدو أن جلاء أهل هذه الأراضي عنها صيَّرها مواتا، وأقطعها عثمان لإحيائها، ويبدو أن معاوية بن أبي سفيان أقطع قطائع في سواحل الشام لتعميرها وإعدادها لمواجهة هجمات الروم، وكذلك أقطع قطائع بأنطاكية بأمر عثمان، وآخر بقاليقلا، وأما إقطاعه فدك لمروان بن الحكم فلم يعرف من طريق صحيحة، وقيل: إن الذي أقطع فدك لمروان هو معاوية بن أبي سفيان
إن سياسة عثمان في إقطاع الأراضي ساهم في زيادة موارد بيت مال المسلمين بما يؤديه الجميع من زكاة على أموالهم إذا توافرت شروطها، وقد نجح مشروع عثمان في إقطاع الأرض بدليل زيادة إيراد الدولة من أملاكها الخاصة في العراق؛ إذ بلغت خمسين ألف ألف درهم بعد أن كانت 900.000 درهم في عهد الفاروق







سابعًا: سياسة عثمان في حمى الأرض:
وهي أراض خصصت لرعي الإبل والخيل التي تملكها الدولة، وقد استمرت حماية وادي النقيع في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حماه للخيل وطوله ثمانون كيلومترا، ويبدأ جنوب المدينة بـ 40 كيلومترا وقد كثرت المناطق المحمية في خلافة عمر لكثرة ما تملكه الدولة من الإبل والخيل المعدة للجهاد، ومن ذلك حمى الربذة لنعم الزكاة، وعين عليه مولاه هنِّي وأوصاه بالسماح لأصحاب الإبل القليلة بالرعي فيه دون الأغنياء، وحمى أرضا في ديار بني ثعلبة رغم احتجاجهم على ذلك فقد أجابهم: البلاد بلاد الله، تحمى لنعم مال الله ونهج عثمان نهج من سبقه في الحمى بسبب اتساع الدولة وازدياد الفتوحات في عهده، وقد اقتصر في الحمى على صدقات المسلمين لحمايتها، وعلى هذا فإن عثمان زاد في الحمى لما زادت الرعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة ولما كان أبو بكر وعمر قد حميا دون أن ينكر عليهم أحد ذلك، فإن عثمان وسع الحمى لكثرة إبل الصدقة وماشيتها، وكثرة الخصومات بين رعاة ماشية الصدقة، فلا اعتراض على فعله, بل ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان في الحمى قد اشتهر ذلك بين الصحابة فلم ينكر عليهم منكر، ويعتبر ذلك إجماعا. وقد حكى الإجماع ابن قدامة








ثامنًا: أنواع النفقات العامة في عهد عثمان:


1- نفقات الخليفة:
كان عثمان لا يأخذ من بيت مال المسلمين شيئا؛ فقد كان أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، فكان ينفق على أهله ومن حوله من ماله الخاص.

2- صرف مرتبات الولاة من بيت المال:
في عهد عثمان كانت الدولة الإسلامية مقسمة إلى ولايات، وكان على كل ولاية وال يعينه الخليفة يأخذ مرتبه من بيت المال، ويدير شئون الولاية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا لم يعين الخليفة ممثلا له على بيت مال الولاية، فإنه يدخل في اختصاص الوالي الإشرافُ على جباية موارد الولاية، وهي الجزية والخراج وعشور التجارة ينفق منها على شئون الولاية، والفائض يرسله إلى بيت مال المسلمين في المدينة، أما الزكاة التي تحصل من أغنياء الولاية فكانت تصرف على فقرائه

3- الإنفاق من بيت المال على مرتبات الجند:
كان بيت المال يدفع مرتبات للجند علاوة على ما يحصلون عليه من نصيب في الغنائم، وكان جند كل ولاية يحصلون على مرتباتهم من بيت مال الولاية، فمثلا بالنسبة لجند مصر كتب عثمان ابن عفان إلى عبد الله بن سعد والي مصر الكتاب التالي لصرف مرتبات الجند المرابطين في الإسكندرية: (قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية وقد نقضت الروم مرتين، فالزم الإسكندرية رابطتها ثم أجرِ عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر)

4- الإنفاق العام على الحج من بيت المال:
كان الإنفاق العام على الحج في عهد عثمان من بيت المال، وكانت كسوة الكعبة من القباطي، وهو ثياب من كتان من نسيج مصر

5- تمويل إعادة بناء المسجد النبوي من بيت المال:
كلم الناس عثمان بن عفان أول ما تولى الخلافة أن يزيد في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يضيق بالناس في صلاة الجمعة بسبب امتداد الفتح وزيادة سكان المدينة زيادة عظيمة، فاستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه، فصلى عثمان الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه وأشهد أني سمعت رسول الله يقول: «من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» وكان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه

6- تمويل توسعة المسجد الحرام من بيت المال:
كانت الكعبة أيام الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة وليس حولها إلا فناء ضيق يصلي الناس فيه، وظل المسجد كذلك في خلافة أبي بكر، وفي عهد عمر وسع المسجد فاشترى دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في بيت الله الحرام وأحاطها بجدار قصير، وأدخل إنارة المسجد ليلا؛ وذلك لأن المسجد كان قد ضاق بالحجاج الذين يأتون لأداء فريضة الحج بعد أن امتدت فتوحات الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما ضاق المسجد ثانية في عهد عثمان احتذى بمثل عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها وأحاطها بجدار قصير لا يرتفع إلى قامة الرجل كما فعل عمر من قبل كما كان الولاة يبنون المساجد في ولاياتهم وينفقون عليها من بيت مال الولاية، كما حدث عند بناء مسجد الرحمة بالإسكندرية، ومسجد في اصطخر في فتوحات المشرق

7- الإنفاق على إنشاء أول أسطول بحري:
ساهم بيت مال المسلمين في إنشاء أول أسطول بحري في الإسلام في عهد عثمان، وسيأتي دور هذا الأسطول في الفتوحات الإسلامية بإذن الله تعالى عند حديثنا عن الفتوحات

8- الإنفاق على تحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة:
في سنة ست وعشرين هجرية كلم أهل مكة عثمان t أن يحول الساحل من الشعيبة وهي ساحل مكة قديما في الجاهلية إلى ساحلها اليوم وهي جدة لقربها من مكة، فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها وأمر بتحويل الساحل إليها، ودخل البحر واغتسل فيه وقال إنه مبارك، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال إلا بمئزر، ثم خرج من جدة من طريق عسفان إلى المدينة وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندرا إلى الآن لمكة المشرفة

9- تمويل حفر الآبار من بيت مال المسلمين:
ومن الأعمال التي مولها بيت مال المسلمين في عهد عثمان حفر بئر للشرب بالمدينة، وتسمى بئر أريس وهي على ميلين من المدينة وكان ذلك في سنة ثلاثين هجريا، وحدث أن قعد عثمان على رأس البئر وكان بإصبعه خاتم رسول الله، فانسل الخاتم من إصبعه فوقع في البئر، فطلبوه من البئر ونزحوا ما فيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالا عظيما لمن جاء به، واغتم لذلك غما شديدا فلما يئس من العثور على الخاتم صنع خاتما آخر مثله من فضة على مثاله وشبهه ونقش عليه (محمد رسول الله) فجعله في أصبعه حتى قتل، فلما قتل ذهب الخاتم من يده فلم يدر من أخذه

10- الإنفاق على المؤذنين من بيت المال:
كان عثمان أول من رزق المؤذنين من بيت المال، قال الإمام الشافعي: (قد أرزق المؤذنين إمام هدى عثمان بن عفان، وقد جعل عثمان على الأذان جعالة، ولا
يستأجر استئجارا)

11- تمويل أهداف الإسلام العليا:
يتضح من دراسة النفقات العامة السابقة من بيت المال أنها ساهمت في تمويل الأهداف العليا للدولة الإسلامية، فضلا عن الإنفاق العام على إدارة الدولة ومصالح الرعية، ثم الإنفاق على نشر الإسلام كي تكون كلمة الله هي العليا. وتم تمويل إنشاء أول أسطول بحري للدولة الإسلامية، كما تم تعمير بيوت الله بالإنفاق على إقامة المساجد وتجديدها ورزق المؤذنين، والولاة، والقضاة والجند، وعمال الدولة، كما تم الصرف على رحلات الحج إلى بيت الله الحرام، وكسوة الكعبة وهي قبلة الإسلام والمسلمين، كما أن بيت مال المسلمين قدم أمواله لحفر الآبار ليشرب منها الغادي والرائح من مواطني الدولة الإسلامية، ومن مصادر الدولة، كالزكاة وخمس الغنائم، ثم تمويل شرائح المجتمع الضعيفة في الدولة الإسلامية وهم الفقراء والمساكين واليتامى، وفي مساندة الغرباء وأبناء السبيل وفك الرقاب




تاسعًا: استمرار نظام الأعطيات في عهد عثمان بن عفان:
استمر نظام الأعطيات في عهد عثمان كما كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقد اعتمد السابقة في الدين أساسا للعطاء، وكتب بذلك لواليه على الكوفة بقوله: أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به، وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل وحين اتسعت الفتوحات الإسلامية في عهده كثرت موارد الدولة المالية، مما أدى ذلك بالخليفة عثمان أن يتخذ له الخزائن فانعكس ذلك بدوره على العطاء، فزاد في أرزاق الجند بمقدار مئة درهم لكل منهم، فهو أول خليفة زاد الناس في العطاء واستن به الخلفاء من بعده في الزيادة
قال الحسن: وشهدت منادي عثمان ينادي: يا أيها الناس، اغدوا على كسوتكم فيأخذون الْحُلَل، واغدوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارَّة، وخير كثير، وذات بين حسن، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلا يوده وينصره ويألفه.واهتم الخليفة عثمان بأمر الثغور والمرابطة فيها، فكان يأمر قادته بإجراء الأرزاق والعطاء ومضاعفته للجند المرابطين







عاشرًا: أثر تدفق الأموال على الحياة الاجتماعية والاقتصادية:
في عهد عثمان كثر الخراج وأتاه المال من كل وجه، فاتخذ له الخزائن، وأثر ذلك بدوره في الأثر الاقتصادي والاجتماعي؛ فعن أبي إسحاق أن جده مر على عثمان فقال له: كم معك من عيالك يا شيخ؟ قال: معي كذا، قال: قد فرضنا لك في خمس عشرة، يعني ألفا وخمسمائة، وفرضنا لعيالك مئة مئة.وعن محمد بن هلال المديني قال: حدثني أبي عن جدتي أنها كانت تدخل على عثمان فافتقدها يوما فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة غلاما، فقالت: فأرسل إليَّ بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية، ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة.كما وسع على عيال أهل العوالي بالمدينة المنورة في القوت والكسوة وحين قام القائد قطن بن عمرو الهلالي بإعطاء الجيش الذي برفقته -وعدده أربعة آلاف جندي- أربعة آلاف درهم كتشجيع لهم استكثر ذلك والي البصرة عبد الله بن عامر وكتب بالخبر إلى الخليفة عثمان فأجازها وقال: ما كان معونة في سبيل الله فجائز، فصارت الجائزة
اسما للعطية
وقام عثمان بتوريث عطاء الجندي الإسلامي لورثته من بناته وزوجاته، فقد قال الزبير ابن العوام للخليفة عثمان بعدما مات عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-: أعطني عطاء عبد الله؛ فعيال عبد الله أحق به من بيت المال، فأعطاه خمسة عشر ألفا
هذا وقد نشطت الحركة الزراعية والصناعية والتجارية في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وبسبب ما من الله به على المسلمين من فتوح، أصبح أهل المدينة خاصة والمسلمون عامة في نعمة ويسار، وكان يقترن بهذا الثراء ضروب واسعة من الحضارة لم تعرفها الجزيرة العربية قبل الفتوحات الكبيرة. لقد اطلع المسلمون على ما عند الأمم الأجنبية واقتبسوا منهم، وبدأ هذا الاقتباس يتسع في خلافة عثمان، فبنى بعض الصحابة الدور والمنازل الكبيرة، وساهم الأجانب الذين سُبُوا في الفتوح في تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية






حادي عشر: عثمان وأقاربه والعطاء من بيت المال:
اتهم عثمان من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتهام حملة دعائية باطلة قادها السبئيون والشيعة الروافض ضده، وتسربت في كتب التاريخ وتعامل معها بعض المفكرين والمؤرخين على كونها حقائق وهي باطلة لم تثبت؛ لأنها مختلفة, والذي ثبت من إعطائه أقاربه أمور تعد من مناقبه لا من المثالب فيه:
1- إن عثمان كان ذا ثروة عظيمة وكان وَصُولا للرحم يصلهم بصلات وفيرة، فنقم عليه أولئك الأشرار وقالوا بأنه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرعية من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا؟
وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب. فهذه النصوص وغيرها مما اشتهر عنه وما صح من الأحاديث في فضائله الجمة، تدل على أن كل ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال وإنفاق أكثره على نفسه وأقاربه وقصوره في حكايات بدون زمام ولا خطام يطول ذكرها مفترى عليه، مع براءة عثمان مما نسب إليه، قال تقي الدين بن تيمية: إن سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام كما قال الحسن وأبو ثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية فذوو القربى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه، وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده؛ وذلك لأن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين، وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. وقال: وبالجملة، فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بالولاية أو بمال.وقال: إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدها: أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى، والثاني: أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام، والثالث: أن قرابة عثمان كانوا قبيلة كبيرة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطائهم.. وهذا مما نقل عن عثمان بن عفان الاحتجاج به
2- جاء في تاريخ الطبري أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: إن فتح الله عليك بإفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا، فخرج بجيشه، حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها وسهلها وجبالها، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ خمس الخمس، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع ابن وثيمة النضري، فشكى وفد ممن كان معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله، فقال لهم عثمان: إنما أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو رد. قالوا: إنا نسخطه، فأمر عثمان عبد الله أن يرده فرده وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد
3- وكان قد بقى من الأخماس والحيوان -في فتح أفريقية- ما يشق حمله إلى المدينة، فاشتراه مروان بمائة ألف درهم، ونقد أكثرها وبقيت منه بقية، وسبق إلى عثمان مبشرا بالفتح، وكانت قلوب المسلمين في غاية القلق خائفة من أن يصيب المسلمين نكبة من أمر أفريقية، فوهب له عثمان ما بقي جزاء بشارته. وللإمام أن يعطي البشير ما يراه لائقا بتعبه وخطر بشارته، هذا هو الثابت في عطية عثمان لمروان، وما ذكروه من إعطائه خمس أفريقية فكذب لقد كان عثمان شديد الحب لأقاربه، ولكن ذلك لم يمل به إلى غشيان محرم أو إساءة السيرة والسياسة في أمور المال أو غيرها، وإنما دست في كتب التاريخ أكاذيب باطلة كان خلفها الدعاية السبئية والشعبية الرافضية ضد عثمان .
إن سيرة عثمان في أقاربه تمثل جانبا من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة لقوله تعالى: "ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ" [الشورى: 23]، وقوله جل ثناؤه: "وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا" [الإسراء: 26] كما أنها تمثل جانبا عمليا من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فقد رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم من حاله ما لم ير أو يعلم غيره من منتقديه، وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة الناس، وكان مما رأى شدة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقاربه وبره لهم وإحسانه إليهم، وقد أعطى عمه العباس ما لم يعط أحدا عندما ورد عليه مال البحرين. وولى عليا وهو ابن عمه وصهره، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم القدوة
يقول ابن كثير -رحمه الله-: وقد كان عثمان t كريم الأخلاق ذا حياء كثير، وكرم غزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله تأليفا لقلوبهم من متاع الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواما ويدع آخرين إلى ما جعل في قلوبهم من الهدى والإيمان، وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل: اعدل، فقال: «شقيت إن لم أعدل». ويحتج عثمان لبره أهل بيته وقرابته مخاطبا مجلس الشورى بقوله: أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبيّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما سبيل احتسابا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه وقد رد ابن تيمية -رحمه الله- على من اتهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال فقال: «وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار (مليون دينار)، فالجواب يقال: أين النقل الثابت بهذا؟!! نعم كان يعطي أقاربه ويعطي غير أقاربه أيضا، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت، ثم يقال ثانيًا: هذا من الكذب البين، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحدا ما يقارب هذا المبلغ)




* * *











 
 توقيع : قيس





رد مع اقتباس