عرض مشاركة واحدة
قديم 11-28-2013, 04:11 AM   #1


الصورة الرمزية قيس
قيس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1949
 تاريخ التسجيل :  Oct 2012
 أخر زيارة : 01-31-2014 (08:05 PM)
 المشاركات : 6,701 [ + ]
 التقييم :  71584925
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي أهمية السيرة العطرة (فى فهم القرآن الكريم)



بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد
المبعوث رحمة للعالمين..
وعلى آل بيته الطيبيين الطاهرين، وأصحابه الخير الميامين، وسلم تسليماً
كثيراَ إلى يوم الدين.
أهمية السيرة العطرة (فى فهم القرآن الكريم)
د/عبد الحميد الجبالي
إن فى دراسة السيرة النبوية الشريفة ما يعين كل مسلم على فهم قوى ودقيق لكتاب الله عز وجل، إذ أن كثيراً من آيات القرآن الكريم إنما تفسرها وتجليها الأحداث التى مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفه منها فهناك من الآيات القرآنية ما نزلت إثر حوادث طرأت أو مشاكل وقعت أو أسئلة وجهت إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فجاءت هذه الآيات تحمل الحل أو تبين الحكم، أو تجيب على الأسئلة.
ومما لا يخفى مدى أهمية الوقوف على هذه الأسباب فى التعرف على المعنى الأصوب والأدق للآية، هذا إن لم يتوقف فهم مثل هذه الآيات على معرفة أسبابها، الأمر الذى يترتب على غياب هذه المعرفة وقوع فى الإشكال والتعارض مع غيرها، وقد حصل هذا بالفعل مع بعض الصحابة والتابعين وسواهم كثيراً ممن جاء بعدهم، ومن أمثلة ذلك ما يلى :
1 - ما أشكل على عروة بن الزبير رضى الله عنه أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة مع قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما }لآية 158 البقرة ففي الصحيح عن عروة قال : سألت عائشة رضى الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قال : فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة. قالت : بئسما قلت يا ابن أختي؛ إن هذه الآية لو كانت كما أولتها عليه كانت : لا جناح عليه ألا يتطوف بهما. ولكنها أنزلت فى الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية ( اسم صنم، كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة ) التى كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل(بضم الميم، وفتح الشين، وتشديد اللام الأولى، وفتحها، موضع بين مكة والمدين) فكان من أَهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا : يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قالت عائشة : "وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما؛ فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما" ( أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الحج، باب ما يفعل بالعمرة، ما يفعل بالحج 3/719 رقم 1790، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب بيان أن السعى بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به 5/25 رقم 1277 .)
وهذه الرواية - كما ترى - تدل على أن عروة مع جلالة قدره وفهمه، فهم من جملة { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } أن الجناح منفى أيضاً عن عدم الطواف بهما، وعلى ذلك تنتفى الفريضة، وكأنه اعتمد فى فهمه هذا على أن نفى الجناح، أكثر ما يستعمل فى الأمر المباح.
أما عائشة رضى الله عنها فقد فهمت أن فريضة السعى بين الصفا والمروة، مستفادة من السنة المطهرة، ومن سيرته صلى الله عليه وسلم العملية، وأن جملة : { فلا جناح عليه ألا يطوف بهما } لا تنافى تلك الفريضة كما فهم عروة، إنما الذى ينفيها أن يقال : "فلا جناح عليه ألا يتطوف بهما".
وإنما توجه نفى الحرج فى الآية عن الطواف بين الصفا والمروة، لأن هذا الحرج هو الذى كان وافراً فى أذهان الأنصار، كما يدل عليه سبب نزول الآية الذى ذكرته السيدة عائشة رضى الله عنها، فتدبر
2 - ما تأوله قدامه بن مظعون رضى الله عنه( هو : قدامه بن مظعون القرشى، أخو عثمان بن مظعون، وخال حفصة، وعبد الله، ابني عمر بن الخطاب، وهو من السابقين إلى الإسلام، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مات سنة 36هـ له ترجمة فى : أسد الغابة 4/375 رقم 4283، والاستيعاب 3/1277 رقم 2108، والإصابة 3/228 رقم 7088 .)
وأشكل عليه أنه لا حرج على كل من آمن واتقى وأحسن إذا ما شرب الخمر، وكان والى عمر بن الخطاب على البحرين، وبعد أن استقدمه عمر رضى الله عنه ليقيم عليه الحد لسكره، قال له : يا قدامه إنى جالدك، فقال : يا أمير المؤمنين، لئن كان الأمر كما يقولون ما كان لك أن تجلدنى. فقال : لم؟ قال : لأن الله تعالى يقول : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا } الآية 93 المائدة فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق والمشاهد. فقال عمر : ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس : إن هذه الآيات أنزلت عذراً للماضين، وحجة على الباقين، لأن الله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } (الآية 90 المائدة) قال عمر : صدقت ( أخرجه الحاكم فى المستدرك 4/417 رقم 8132 وقال : صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه 9/240 رقم 17076)
ويلاحظ هنا أن الوقوف على سبب النزول هو الذى جلى الموقف لابن عباس، ورفع الإشكال عنها، وسبب نزولها على ما روى عن البراء بن عازب رضى الله عنه أنه قال : "مات رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن تحرم الخمر، فلما حرمت الخمر، قال رجال كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ فنزلت : { ليس على الذين آمنوا وعلموا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا } (الآية 93 المائدة،) (والحديث أخرجه الترمذى فى سننه ) فالآية ترفع الجناح عمن شربها قبل التحريم. فلا إشكال ولا تعارض.
من أجل ذلك فقد أكد العلماء على الأهمية البالغة لسبب النزول وأنه طريق قوى فى فهم معانى القرآن الكريم.
وإذا رجعت إلى السيرة النبوية لتفهم منها التجسيد الحى للقضية الأولى التى ابتدأ بها أمر الدين، وهى الوحي الإلهى، لرأيت أن السيرةالعطرة كانت أقرب وأقوى فى تفسير آيات الوحي من بعض التفاسير التى اتخذت الجانب اللغوى، أو التصوير البيانى، أو التأويل التكليفى.
قال تعالى : { إن سنلقى عليك قولاً ثقيلاً }الآية 5 المزمل وقال سبحانه : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } الآية 21 الحشر
فإن الذى يخلو ذهنه من السيرة النبوية التى تصور الواقع الذى عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التنزيل القرآني لا يستطيع أن يتصور واقع ما تشير إليه تلك الآيات وغيرها المتكلمة عن الوحي وما فيه، وما يتطلبه تصور ذلك من صفاء وطهر واستعداد وأهلية تجعله على مستوى ما لدى هذه الآيات ليتفاعل معها، وتتفاعل معه فى إطار ما تضمنته من هبات ربانية.
ومما روته كتب السنة النبوية كاشفة عن أحواله صلى الله عليه وسلم فى التنزيل القرآني ما يلى :
1 - عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة"(أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب بدء الوحي 1/39 رقم 5، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الصلاة، باب الاستماع للقراءة).
2- وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال : "كان نبى الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وَتَرَبَّدَ له وَجْهُهُ…" أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، رقم 2334
3- وعن يعلى بن أمية رضى الله عنه(1) قال : "وددت أنى قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي؟ فقال عمر : تعال أيسرك أن تنظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي؟ قلت : نعم. فرفع طرف الثوب، فنظرت إليه له غطيط وأحسبه قال : كغطيط البكر…"(أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الحج، باب ما يفعل بالعمرة 3/718 رقم 1789، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب ما يباح للحرم بحج أو عمرة 4/332 رقم 1180).
4 - وعن عائشة رضى الله عنها قالت : "ولقد رأيته "أى النبى صلى الله عليه وسلم" ينزل عليه الوحي فى اليوم الشديد البرد، فيفصم "أى يقلع" عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً"(أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب بدء الوحي 1/25، 26 رقم 2، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، باب عرق النبى صلى الله عليه وسلم فى البرد، وحين يأتيه الوحي 8/97 رقم 2333).
وفى رواية عنها قالت : "إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها" رواه أحمد فى مسنده
5- وعن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال : "كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه أخذته بُرَحاء شديدة، وعرق عرقاً شديداً مثل الجُمان ثم سرى عنه. وكنت أكتب وهو يملى على، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل الوحي، حتى أقول : لا أمشى على رجلى أبداً"(أخرجه الطبرانى بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات).
6- وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : "كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوى(خرجه الترمذى فى سننه كتاب تفسير القرآن) فأنزل عليه يوماً فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وأرض عنا" وعن عائشة رضى الله عنها أن الحارث بن هشام رضى الله عنهما سُأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمنى فأعى ما يقول"( أخرجه البخارى بشرح فتح البارى كتاب بدء الوحي) وهذه الصلصلة أو الدوى هو صوت الملك بالوحي، ولا تعارض بينهما.
قال ابن حجر : "فدوى النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوى بالنسبة إلى الحاضرين، كما قال عمر : يسمع عنده كدوى النحل، والصلصلة بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم، فشبهه عمر بدوى النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه"
- وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هل تحس بالوحي؟ فقال : أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلىَّ إلا ظننت أن نفسى تقبض".
فهذه الروايات تبين لك إلى أى مدى يستلزم الوحي الإلهى من استعداد خاص، وتجرد عن عالم البشر، وإلى ما لاقى النبى صلى الله عليه وسلم من معاناة أثناء تنزيل الوحي عليه، حتى أن الملامس لجسده الشريف، كان يشعر به كما مر من حديث زيد بن ثابت رضى الله عنه.
فإذا رجعت للآيات الكريمة والتى تتكلم عن الوحي، تستطيع الآن أن تتفقهها؛ لا فى إعجازها المجرد، وإنما فى هيئة وقعها الحى على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، ومن عايشه بها من صاحبته رضوان الله عليهم أجمعين.
ولتنظر الآن كيف تتناول كتب التفسير للقرآن الكريم آية من تلك الآيات وهى قوله تعالى: { إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلا } (الآية 5 المزمل.) بالتفسير والشرح لنرى أى التفاسير أقرب فى تيسير فهم الآية؛ التفسير اللغوى، أو التصوير البيانى، أو التأويل التكليفى، أو التفسير بالمأثور من السنة النبوية، والسيرة العطرة ؟.
... جاء فى تفسير الآلوسي : "قولاً ثقيلاً" : هو القرآن العظيم، فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة، ثقيل على المكلفين، سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه مأمور بتحملها وتحميلها للأمة. ونحو هذا جاء فى تفسير الكشاف.
وقيل : ثقيل فى الميزان، وهو اختيار ابن جرير الطبري وقيل : ثقله على الكافرين والمنافقين بإعجازه ووعيده، وقيل غير ذلك.
... وفى تفسير القرطبي : قولاً ثقيلاً : صلاة الليل! أى سنلقى عليك بافتراض صلاة الليل قولاً ثقيلاً يثقل حمله، لأن الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس، ومجاهدة للشيطان فهو أمر يثقل على العبد".
... وفى تفسير القرآن العظيم لابن كثير : ثقيلاً : أى ثقيل وقت نزوله من عظمته، ثم ساق الروايات السابقة التى تبين أحوال النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزول الوحي عليه".
... ومن كل ما سبق من أوجه التفسير، يتبين لك كيف أن التفسير الذى اعتمد على المأثور من سنة النبى صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة، كان من أقرب وأقوى التفاسير فى تيسير فهم الآية، مع صحة بقية الأوجه الأخرى فى تفسيرها.
أهمية السيرةالعطرة فى فهم القرآن الكريم من خلال الاستعانة بها فى تقييد مطلق الآيات القرآنية، أو تخصيص عامها؛ وهذه ناحية هامة جداً يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية
أ- فمثال تخصيص السيرةالعطرة لعام القرآن الكريم
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين } (اٍلآية 6 المائدة) فالظاهر من قوله تعالى : "وأرجلكم" الأمر بغسل الرجلين على قراءة النصب عطفاً على قوله تعالى "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم" وهو الواجب أيضاً على قراءة الخفض عطفاً على قوله { وامسحوا برؤسكم } فالمراد بمسح الرجلين غسلهما وقد توهم بعض السلف كما توهم الخوارج والروافض أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين، وقد روى ذلك عن على بن أبى طالب رضى الله عنه ولكنه لم يصح إسناده، ثم الثابت عنه خلافه

... ودعوى النسخ مردودة بما ورد فى السيرةالعطرة من فعله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين بعد نزول آية المائدة، ويدل على ذلك ما روى عن جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه حيث بال ثم توطأ، ومسح على خفيه. فقيل : أتفعل هذا؟ فقال : نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ، ومسح على خفيه. قال : إبراهيم فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة" وهو ما صرح به جرير رضى الله عنه رداً على من تأول أن مسح النبى صلى الله عليه وسلم على الخفين قبل نزول المائدة، فأجاب قائلاً : "ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة"
فإذا كانت آية المائدة نزلت فى غزو المريسيع سنة خمس، وقيل سنة ست هجرية، ومسحه صلى الله عليه وسلم كان فى غزوة تبوك سنة تسع هجرية على ما جاء فى رواية المغيرة بن شعبة(فعنه قال : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته فى غزوة تبوك، قال المغيرة : فذهبت معه بماء، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكبت عليه الماء، فغسل وجهه، ثم ذهب يخرج يديه من كمي جبته، فلم يستطع من ضيق كمى الجبة، فأخرجهما من تحت الجبة، فغسل يديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين" أخرجه مالك فى الموطأ كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين) فإن هذا يدل على أن فعله صلى الله عليه وسلم محكم وأنه مع الآية الكريمة يخصص عمومها.
... قال الإمام النووى : "فلو كان إسلام جرير متقدماً على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه فى مسح الخفين منسوخاً بآية المائدة، فلما كان إسلامه متأخراً علمنا أن حديثه يعمل به، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف، فتكون السنة المطهرة مخصصة لعموم الآية"
على أنه قد يقال : قد ثبت فى آية المائدة القراءة بالجر "وأرجلكم" عطفاً على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين كما بينته السيرة النبوية، ويتم ثبوت المسح بالكتاب والسيرة، وهو أحسن الوجوه التى توجه بها قراءة الجر.
... وعلى جواز المسح على الخفين فى السفر والحضر، سواء كان لحاجة أو لغيرها إجماع من يعتد به فى الإجماع، ولا يعتد بإنكار الشيعة والخوارج لتلك الرخصة، ولا بخلافهم فى ذلك قال الحافظ ابن كثير : "وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولاً منه وعملاً وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند، بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت فى صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه (وروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : "لو كان الدين بالرأى، لكان أسفل الخف أولى من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظهر خفيه" أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الطهارة، باب كيف المسح )
مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه آية المائدة، وهم مخالفون لذلك كله، وليس لهم دليل صحيح فى نفس الأمر".
فتأمل كيف كانت أهميةالسيرةالعطرة فى فهم القرآن الكريم من خلال الاستعانة بها فى تخصيص عام غسل الرجلين فى قوله تعالى "وأرجلكم" بما ورد فى السيرةالعطرة من فعله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، ورد دعوى نسخ آية المائدة لتلك الرخصة النبوية.
ب- ومثال تقييد السيرةالعطرة لمطلق القرآن الكريم
قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم } (الآية 38 المائدة
وهذه الآية الكريمة مطلقة لم تقيد قطع اليد بموضع محدد، لأن اليد تطلق على الأصابع، والكف، والرسغ، والساعد، والمرفق، والعضد. ولكن السيرةالعطرة بينت ذلك، وقيدت القطع بمقدار الكف فقط من يد واحدة. وذلك حينما أتى بسارق إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقطع يده من مفصل الكف(أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى كتاب السرقة).
فلولا السيرةالعطرة لما استطعنا فهم المراد من الآية الكريمة، ولما استطعنا إقامة الحد على وجهه الصحيح.
والذي أخلص إليه من كل ما تقدم، التأكيد على أن أهميةالسيرة النبوية فى تفسير القرآن الكريم، والوقوف من خلالها على فهم أدق وأقرب لآيات القرآن هو أمر فى غاية الجلاء.
... وهو وإن كان لا يخلو من الاعتماد عليه كتاب تفسير، إلا أن المطلوب إنما هو التركيز عليه، بحيث لا يطغى الاهتمام بالشكل، والأمور الجانبية على هذا الفحوى والمضمون؛ وهو ما يشاهد فى غالبية كتب التفسير، الأمر الذى أصبح يشكل عبئاً ظاهراً فى تناول أمر هداية القرآن حتى على طلبة العلم والمتخصصين منهم. فإن هذه العلوم مِنْ لغوية - نحوية، وبلاغية - وغيرها وإن كانت وسائل يستعان بها على فهم القرآن، والوقوف على أسرار بيانه، إلا أنه لا ينبغى أن تكون هى الشغل الشاغل عن الهداية العملية للقرآن، هذه التى سرت روحها فى الرعيل الأول، فتفجرت منها ينابيع العلم والمعارف، ودانت لهم الدنيا بأسرها.
... فكيف إذا جاوز الأمر الوقوف على الوسائل إلى قضايا جانبية من القضايا الفلسفية، والأهواء الشخصية، فإنه عند ذلك يبعد كثيراً عن القصد ولا يحقق المطلوب.

=============


 
 توقيع : قيس





رد مع اقتباس