عرض مشاركة واحدة
قديم 02-08-2013, 06:37 AM   #15


الصورة الرمزية قيس
قيس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1949
 تاريخ التسجيل :  Oct 2012
 أخر زيارة : 01-31-2014 (08:05 PM)
 المشاركات : 6,701 [ + ]
 التقييم :  71584925
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة





اشـــــــــــتعال الفتنـــــة

نجح الموتورون الحاقدون الكاذبون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة، وعين عثمان سعيد بن العاص واليا جديدا على الكوفة، وعندما وصل سعيد إلى ولايته صعد المنبر، وبعدما حمد الله وأثنى عليه قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني عندما أمرني عثمان، لم أجد بدًّا من التنفيذ، ألا وإن الفتنة قد أطلت رأسها فيكم، والله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تغلبني، وإني رائد نفسي اليوم, واطلع سعيد على أحوال الكوفة، وعرف توجهات الناس فيها، وأدرك تعمق الفتن فيها، وضلوع مجموعة من الخوارج والموتورين والحاقدين وأعداء الإسلام في التآمر والكيد والفتنة وسيطرة الرعاع والغوغاء والأعراب على الرأي فيها.
وكتب سعيد رسالة إلى أمير المؤمنين عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردية في الكوفة، ومما قال فيها: إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم, وقد غلب فيها أهل الشرف والسابقة والقِدمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت, وأعراب لَحَتْ حتى ما ينظر فيها إلى ذي شرف وبلاء.. فرد عليه عثمان t برسالة طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها وتصنيفهم على أساس السبق والجهاد، وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد على غيرهم، ومما قال له فيها: فضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله على أيديهم تلك البلاد، واجعل الذين نزلوا البلاد بعد فتحها من الأعراب تبعا لأولئك السابقين المجاهدين إلا أن يكون السابقون تثاقلوا عن الجهاد والحق، وتركوا القيام به، وقام به من بعدهم. واحفظ لكل إنسان منهم منزلته وأعطهم جميعا قسطهم بالحق، فإن المعرفة بالناس يتحقق بها العدل بينهم. وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان t وأخبر الخليفة بما فعل، وجمع عثمان أهل الحل والعقد في المدينة، وأبلغهم بأوضاع الكوفة ورسوخ الفتنة فيها، وإجراءات سعيد بن العاص لمواجهتها، فقالوا: أصبت بما فعلت، ولا تسعف أهل الفتنة بشيء ولا تقدمهم على الناس، ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا تولى الأمور من ليس أهلا لها، لم يقم بها بل يفسدها، فقال عثمان لهم: يا أهل المدينة، إن الناس قد تحركوا للفتنة، فاستعدوا لمواجهتها، واستمسكوا بالحق، وسوف أخبركم بأخبارها وأنقلها لكم أولا بأول.


أولاً: تأذى أصحاب الأهواء من الإصلاح:
تأذى الرعاع وأجلاف الأعراب من تقديم أصحاب السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسة والاستشارة، وصاروا يعيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم واستشارتهم دونهم ويعتبرونهم تمييزا, وجفوة وإقصاء لهم، واستغل الحاقدون الموتورون هذا الأمر في نفوسهم، وغرسوا فيهم كره الخليفة والدولة ورفض أعمال الوالي سعيد بن العاص، ونشر الإشاعات ضده بين الناس، ورفض عامة الناس في الكوفة كلام الموتورين الخارجين، فسكت هؤلاء الحاقدون وصاروا يخفون شبهاتهم ولا يظهرونها؛ لرفض معظم المسلمين لها، ولكنهم كانوا يسرون بها إلى من يؤيدهم من الأعراب أو الغوغاء أو المعاقبين المغررين.
وكان أعداء الإسلام الموتورون من اليهود والنصارى والمجوس يتآمرون على الإسلام والمسلمين، وينشرون الإشاعات الكاذبة ضد الخليفة والولاة، ويستثمرون الأخطاء التي تصدر عن بعضهم في تهييج العامة ضدهم، ويزيدون عليها الكثير من الافتراءات والتزويرات، وهم يهدفون من ذلك إلى نشر الفوضى وتعميق الفرقة بين المسلمين، وذلك لتغذية غيظهم وحقدهم على الإسلام, الذي قضى على أديانهم الباطلة وهدم نظام الحكم الإسلامي، الذي حطم دولهم وقضى على جيوشهم، وجند هؤلاء الأعداء لتحقيق أهدافهم الموتورين من الرعاع والسذج والبلهاء والتف حولهم الحاقدون ممن أدَّبهم أو حدَّهم أو عزَّرهم الخليفة أو أحد ولاته، ونظم هؤلاء الأعداء (جمعية سرية) خبيثة جعلوا أعضاءها هؤلاء الذين استجابوا لهم، وجعلوا لهم أتباعا في المدن الكبيرة والأقاليم العديدة، وكونوا شبكة اتصالات سرية بينهم. وكانت أهم فروع جمعيتهم الخبيثة في: الكوفة، والبصرة، ومصر، ولهم بعض العناصر في المدينة المنورة والشام.


ثانيًا: عبد الله بن سبأ اليهودي على رأس العصابة:
أوصى ابن سبأ أتباعه المجرمين في جمعيته السرية الخبيثة، المنتشرين في بلاد المسلمين، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وولاتكم الذين يعينهم الخليفة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتستميلوا الناس إليكم، وادعوهم إلى هذا الأمر. وبث عبد الله بن سبأ دعاته في الأمصار، وكاتب أتباعه الذين أفسدهم في الأمصار وضمهم إليه وكاتبوه، وتحرك أتباعه في البلدان بدعوتهم ودعوا مؤيديهم في السر إلى ما هم عليه من الخروج على الولاة والخليفة، والعمل على عزل عثمان عن الخلافة، وكانوا في الظاهر يظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليؤثروا في الناس، ويستميلوهم ويخدعوهم، وصار أتباع ابن سبأ يؤلفون الأكاذيب والافتراءات عن عيوب أمرائهم وولاتهم، وينشرونها في كتب يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار، وصار أهل كل مصر منهم يكتبون كتبا بهذه الأكاذيب إلى أهل مصر آخر، فيقرأ أهل كل مصر تلك الكتب المزورة على الناس عندهم فيسمع الناس عندهم عن عيوب وأخطاء الوالي في ذلك البلد فيقولون: إنا لفي عافية مما ابتلى به المسلمون في ذلك البلد، ويصدقون ما يسمعون. وبذلك أفسد السبئيون الأرض وأفسدوا المسلمين، ومزقوا كلمتهم، وزعزعوا أخوتهم ووحدتهم، وهيجوا الناس على الولاة والأمراء، ونشروا الافتراءات ضد الخليفة عثمان نفسه،وكانوا يقومون بهذه الجرائم المنظمة والمدروسة بمهارة يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يعلنون، ويهدفون إلى عزل عثمان والقضاء على دولة الإسلام.
توجه ابن سبأ إلى الشام ليفسد بعض أهلها ويؤثر فيهم، ولكنه لم ينجح في هدفه الشيطاني، فقد كان له معاوية t بالمرصاد. ودخل البصرة ليجند الأتباع له من المارقين أو الحاقدين أو الرعاع البلهاء، وكان والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وكان حازما عادلا صالحا، ولما وصل ابن سبأ البصرة، نزل عند رجل خبيث من أهلها كان لصا فاتكا، هو حكيم بن جبلة.
وبلغ عبد الله بن عامر أن رجلا غريبا نازل على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة لصا، وعندما كانت تعود جيوش الجهاد إلى البصرة، كان حكيم يتخلف عنها ليسعى في أرض فارس فسادا، ويغير على أرض أهل الذمة، ويعتدي على أرض المسلمين، ويأخذ منها ما يشاء، فشكاه أهل الذمة والمسلمون إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر، وقال له: احبس حكيم بن جبلة في البصرة، ولا تتركه يخرج منها حتى تأنس منه رشدا، فحبسه ابن عامر في بيته، وكان لا يستطيع أن يخرج من البصرة، وبينما كان اللص ابن جبلة تحت الإقامة الجبرية في بيته، نزل عليه اليهودي عبد الله بن سبأ، واستغل ابن سبأ زعارة ابن جبلة وانحرافه وحقده ولؤمه فجنده لصالحه، وصار ابن جبلة رجل ابن سبأ في البصرة، وصار ابن جبلة يقدم لابن سبأ أمثاله من المنحرفين والموتورين، فيغرس ابن سبأ في نفوسهم أفكاره، ويجندهم بجمعيته السرية. ولما علم ابن عامر بابن سبأ، استدعاه، وقال له: ما أنت؟ قال ابن سبأ: أنا رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام فأسلم، ورغب في جوارك فأقام عندك. قال ابن عامر: ما هذا الكلام الذي يبلغني عنك؟ اخرج عني. أخرجه ابن عامر من البصرة، فغادرها ابن سبأ بعد أن ترك فيها رجالا وأتباعا له، وجعل فيها فرعا لحزبه
السبئي اليهودي.
ذهب ابن سبأ إلى الكوفة فوجد فيها رجالا من المنحرفين جاهزين لاستقباله، فجندهم لجماعته وحزبه، ولما علم به سعيد بن العاص أخرجه من الكوفة، فتوجه إلى مصر، فأقام فيها وعشش فيها وباض، وفرخ فيها وأفسد، واستمال أناسا هناك من الرعاع والبلهاء، ومن الحاقدين والموتورين، ومن العصاة والمذنبين. وكان ابن سبأ يرتب الاتصالات السرية بين مقره في مصر، وبين أتباعه في المدينة والبصرة والكوفة، ويتحرك رجاله بين هذه البلدان. واستمرت جهود ابن سبأ وأعوانه حوالي ست سنوات، حيث بدأوا أعمالهم الشيطانية سنة ثلاثين، ونجحوا في آخر سنة خمس وثلاثين في قتل الخليفة عثمان، واستمر إفسادهم طيلة خلافة علي ، وقرر (السبئيون) أن تكون بداية الفتنة في الكوفة.


ثالثـًا: أهل الفتنة يفسدون في مجلس سعيد بن العاص:
في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس سعيد بن العاص في مجلسه العام وحوله عامة الناس، وكانوا يتحدثون ويتناقشون فيما بينهم، فتسلل هؤلاء الخوارج من السبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة.
جرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص وبين أحد الحضور، وهو (خنيس ابن حُبيش الأسدي) واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين: منهم جندب الأزدي، الذي قتل ابنه السارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النخعي، وابن الكواء، وصعصعة ابن صوحان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خنيس الأسدي في المجلس، ولما قام أبوه يساعده وينقذه ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضرب فلم يمتنعوا، وأغمى على الرجل وابنه من شدة الضرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيدا تمكن من إصلاح الأمر، ولما علم عثمان بالحادثة طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع.
ذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم وصاروا ينشرون الإشاعات ويذيعون الافتراءات والأكاذيب ضد سعيد وضد عثمان، وضد أهل الكوفة ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال لهم سعيد: إن عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخربون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة، وكانوا بضعة عشر رجلا، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء فقال له: إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا للفتنة، فَرُعْهم وأخفهم وأدبهم وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشدا فاقبل منهم. ومن الذين تم نفيهم إلى الشام: الأشتر النخعي، وجندب الأزدي، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكواء.


رابعًا: أهل الفتنة منفيون عند معاوية:
لما قدموا على معاوية رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوما: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة, وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، وإن قريشا لو لم تكن لعدتم أذلة كما كنت.
كان عثمان يدرك أن معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته, وله من حلمه وصبره، وله من ذكائه ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلها، وفعلا بذل معاوية ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النفر؛ أكرمهم أولا، وخالطهم وجالسهم, وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالس قبل أن يحكم عليهم بما نقلوا عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أن النعرة القبلية هي التي تحركهم، وأن شهوة الحكم والسلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بد من أن يلج عليهم من زاويتين اثنتين:
الأولى: أثر الإسلام في عزة العرب.
الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمل أعبائه.
فإن كان للإسلام أثر في تكوينهم فلا بد أن يرعووا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمة واحدة تخضع لإمام واحد، وودعوا حياة الفوضى وسفك الدماء والقبلية المنتنة.
ويتابع معاوية حديثه معهم فيقول: إن أئمتكم لكم إلى اليوم جُنَّة فلا تشذوا عن جنتكم، وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهين أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر, ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا، فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكرني الجاهلية؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجِنك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة، أخزى الله أقواما أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم.
وعرف معاوية أن الإشارة العابرة لن تقنعهم، لا بد من شرح مسهب لواقع قريش أولا فقال: افقهوا ولا أظنكم تفقهون؛ إن قريش لم تعز في جاهلية ولا في إسلام إلا بالله عز وجل، لم تكن أكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأعظمهم أخطارا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله الذي لا يُسْتذل من أعز، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة, إلا ما كان من قريش؛ فإنه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا, ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك، ولو أن متكلما غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت، فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، أنتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، واعرفها بالشر، وألأمها جيرانا، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابا وألأمهم أصهارا، نزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخط وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ونكبتكم دعوته, وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم, فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجا، وتنزع إلى اللآمة والذلة ولا يضع ذلك قريشا، ولن يضرهم, ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء الله، ولا أمرا أراده الله، ولا تدركون بالشر أمرا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم.
وبذلك بذل معاوية كل طاقاته الفكرية والثقافية والسياسية لإقناعهم:
* عرض لهم أولا أمر قريش في الجاهلية والإسلام.
* تناول قبائل هؤلاء النفر ووضعها في الجاهلية؛ حيث كانت تعاني سوء المناخ ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثم الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمهم الله بالإسلام فعزت بعد ذلٍّ، وارتفعت بعد هوان.
* تناول معاوية صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثم عاد وانضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار.
* كشف معاوية عن مخططات صعصعة وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجا.
وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة, ومحرك هذا الشر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله ثم بالإسلام والعقيدة، ثم كشف عن زيف هؤلاء النفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخططاتهم وصلتها بدعوى الجاهلية.
* جلسة أخرى:
ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلا ثم قال: أيها القوم، ردوا عليَّ خيرا، أو اسكتوا وتفكروا، وانظروا فيما ينفعكم, وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم.
قال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. قال معاوية: أو ليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته, وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا؟! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم، وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم. قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن من المسلمين من هو أحق به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قدما من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدما منك في الإسلام. قال معاوية: والله إن لي في الإسلام قدما، ولغيري كان أحسن قدما مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر ابن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوما ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره، فعاودوا الخير وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلا، قال معاوية: أما والله إن لله سطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تُحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل، فوثبوا عليه فأخذوا بلحيته ورأسه فقال: مه، إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلا ما بقيت.
هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشام كل جهده، واستعمل حلمه وثقافته وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنه يدعوهم إلى تقوى الله وطاعته، والاستمساك بالجماعة والابتعاد عن الفرقة، وإذا بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله. وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد فذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حد زعمهم فهو يتوب من المعصية إن وقعت، ثم يعود لدعوتهم إلى الطاعة والجماعة والابتعاد عن تفريق كلمة الأمة، ولو كان الوعظ يجدي معهم لأمكن أن تتأثر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللطف وهذا الحلم، لكنهم اعتبروا ذلك ضعفا وتهاونا منه؛ خاصة وهو يوجههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهادئ في العظة واللين في النصح، فوجدوا المجال رحبا أن يكشفوا عن مكنون قلوبهم. فقالوا: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإن بالمسلمين من هو أحق به منك، وانتبه معاوية انتباها مفاجئا إلى ما يكنُّون، فأحب أن يتعرف على جانب غامض عليه، لعل في هذا التعرف ما يوصله إلى من يحركهم، ويبث في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنهم أخفوا ما يكنون, واكتفوا بالإشارة إلى أنهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولِمَنْ أَبُوه أفضل من أبيه، ثم تحلم عليهم أكثر فأكثر، رغم الأسلوب الفج الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جوابا مستفيضا عن وجهة نظره في الحكم والإمارة والقيادة، وقد لخص معاوية إجابته في ست نقاط أساسية ومهمة:
1- هي أن له قدما وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
2- إن هناك في المسلمين من هو أفضل منه وأكرم، وأحسن سابقة وأكثر بلاء، وهو يرى أنه أقوى من يحمي هذا الثغر الإسلامي العظيم (الشام)، فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه وسياسته، وفهم نفسيات أهله حتى أحبوه.
3- إن الميزان الحساس والمعيار الدقيق الذي يقيم الولاة هو عمر بن الخطاب t الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد في معاوية شططا أو انحرافا أو ضعفا لعزله، ولما أبقى عليه يوما واحدا، فقد عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسوله الله صلى الله عليه وسلم على بعض عمله، واستخدمه كاتبا بين يديه، وولاه أبو بكر الصديق من بعده ولم يطعن في كفاءته أحد.
4- إن اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما الحجة التي يقدمها دعاة الفتنة ليتم الاعتزال على أساسها؟
5- إن الذي يقرر العزل عن العمل أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إن ذلك من حق أمير المؤمنين عثمان t، وهو الذي له الحق في تعيين الولاة وعزلهم.
6- إن أمير المؤمنين عثمان يوم يقرر عزل معاوية، فهو واثق أن أمره خير كله، ولا غضاضة في ذلك؛ فهو أمير مأمور وهو أمر خليفة المسلمين
كان ختام الجلسة مؤسفا أشد الأسف, مؤلما أشد الألم، لقد حذرهم نقمة الله وغضبه، وحذرهم مهاوي الشيطان ومنزلقاته، وحذرهم فرقة الكلمة ومعصية الإمام، وحذرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم وقمعهم، ووجه لهم كلاما قاسيا مبطنا بالتهديد، وعرف أن هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحق، فلا بد من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان ، وكشف هوياتهم وخطرهم ليرى فيهم أمير المؤمنين رأيا آخر


كتاب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- بشأن أهل الفتنة من الكوفة:
كتب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا- من قبل القرآن فيشبهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم, فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم


خامسًا: رجوع أهل الفتنة إلى الكوفة ثم نفيهم إلى الجزيرة:
كتب عثمان إلى سعيد بن العاص، فردهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد -وكان أميرا على حمص- فلما وصلوا إلى عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد استدعاهم، وكلمهم كلاما شديدا، وكان مما قاله لهم: يا آلة الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، لقد رجع الشيطان محسورا خائبا، وأنتم ما زلتم نشيطين في الباطل!! خسَّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ويخزكم، يا معشر من لا أدري من أنتم: أعرب أم عجم، لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة، والله لأذلنكم. وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهرا كاملا، وعاملهم بمنتهى الحزم والشدة، ولم يلن معهم كما لان سعيد ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه, وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم (صعصة بن صوحان) يقول له: يا ابن الخطيئة، هل تعلم أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، وأن من لم يصلحه اللين أصلحته الشدة، وكان يقول لهم: لماذا لا تردون عليَّ كما كنتم تردون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني كما كنتم تخاطبونهما؟
ونفع معهم أسلوب عبد الرحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه وشدته وقسوته, وأظهروا له التوبة والندم، وقالوا له: نتوب إلى الله ونستغفره، أقلنا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله. وبقى القوم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد, وأرسل عبد الرحمن أحد زعمائهم -وهو الأشتر النخعي- إلى عثمان ليخبره بتوبتهم وصلاحهم، وتراجعهم عما كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احلل أنت ومن معك حيث شئتم فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذكر له من فضل عبد الرحمن وحزمه، فأقاما عند عبد الرحمن في الجزيرة مدة أظهروا فيها التوبة والاستقامة والصلا، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاث وثلاثين، بعدما تم نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشام، ثم عبد الرحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أن المصلحة تقتضي أن يسكنوا إلى حين.


1- أهل الفتنة بالبصرة يفترون على أشج عبد القيس:
أما أهل الفتنة بالبصرة بزعامة حكيم بن جبلة فقد كانوا ضد أهل الفضل فيها, وتآمروا وكذبوا عليهم، وكان من أفضل وأتقى أهل البصرة (أشج عبد القيس) واسمه عامر بن عبد القيس، وكان زعيما لقومه، وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلم منه، ومدحه رسول الله بقوله: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة». وكان عامر بن عبد القيس من قادة الجهاد في القادسية وغيرها، وكان مقيما في البصرة، وكان على قسط كبير من الصلاح والتقوى، فكذب الخارجون عليه، واتهموه بالباطل، فسيَّره عثمان إلى معاوية بالشام، ولما كلمه معاوية وعامله، وعرف براءته وصدقه، وكذب الخوارج وافتراءهم
عليه، وكان الذي تولى الكذب على عامر بن عبد القيس هو (حمران بن أبان) وهو
رجل عاص بدون دين؛ حيث تزوج امرأة في أثناء عدتها، ولما علم عثمان بذلك فرق بينهما، وضربه ونكل به لمعصيته، ونفاه إلى البصرة، وهناك التقى مع زعيم السبئيين فيها؛ اللص حكيم بن جبلة.


2- ابن سبأ يحدد سنة أربع وثلاثين للتحرك:
وفي سنة أربع وثلاثين - السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان - أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته، ورسم مؤامراته, ورتب مع جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم وكاتبوه، وراسلهم وراسلوه، وكان ممن كاتبهم وراسلهم، السبئيون في الكوفة، وقد كان بضعة عشر رجلا منهم منفيين في الشام، ثم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين كان زعيم السبئيين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس، وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها وأشرافها، لأنهم توجهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرعاع والغوغاء، الذي أثر فيهم السبئيون والمنحرفون وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضد والي عثمان على الكوفة سعيد بن العاص.


3- أوضاع أهل الكوفة عند تحرك أهل الفتنة:
قال الطبري عن أوضاع الكوفة سنة أربع وثلاثين: وفد سعيد بن العاص إلى عثمان في سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان، وقد بعث سعيد قبل خروج الأشعث بن قيس إلى أذربيجان، وسعيد بن قيس إلى الري، والنسير العجلي إلى همذان، والسائب بن الأقرع إلى أصبهان، ومالك بن حبيب إلى ماه، وحكيم بن سلامة إلى الموصل، وجرير بن عبد الله إلى قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة إلى الباب، وعتيبة بن النهاس إلى حلوان، وجعل على الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وكان نائبه بعد خروجه عمرو بن حريث، وبذلك خلت الكوفة من الوجوه والرؤساء، ولم يبق فيها إلا منزوع أو مفتون.وفي هذا الجو خرج زعيم السبئيين في الكوفة (يزيد بن قيس) بعد اتفاق مع شيطانه ابن سبأ في مصر، وخرج معه أهل الفتنة الذين انضموا إلى جمعية ابن سبأ السرية، والغوغاء الذين تأثروا بها.


4- القعقاع بن عمرو التميمي يقضي على التحرك الأول:
خرج يزيد بن قيس في الكوفة، وهو يريد خلع عثمان، فدخل المسجد وجلس فيه, وتجمع عليه في المسجد السبئيون, الذين كان ابن السوداء يكاتبهم من مصر، ولما تجمع الخارجون في المسجد، علم بأمرهم القعقاع بن عمرو أمير الحرب، فألقى القبض عليهم، وأخذ زعيمهم يزيد بن قيس معه، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته وبصيرته لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان وخلعه، وأظهر له أن كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد بن العاص، والمطالبة بوال آخر مكانه، فاستجيب لطلبهم, ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة لما سمع كلام يزيد، ثم قال ليزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد ولا يجتمع عليك أحد واجلس في بيتك، واطلب ما تريد من الخليفة وسيحقق لك ذلك.

5- يزيد بن قيس يكاتب أهل الفتنة عند عبد الرحمن بن خالد:
جلس يزيد بن قيس في بيته، واضطر إلى تعديل خطته في الخروج والفتنة، واستأجر هذا السبئي (يزيد بن قيس) رجلا وأعطاه دراهم وبغلا، وأمره أن يذهب بسرعة وكتمان إلى السبئيين من أهل الكوفة الذين نفاهم عثمان بن عفان إلى الشام, ثم إلى الجزيرة، وهم مقيمون عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد هناك، وقد أظهروا له التوبة والندم، وقال يزيد لإخوانه الشياطين في كتابه: إذا وصلكم كتابي فلا تضعوه من أيديكم حتى تأتوا إليَّ، فقد راسلنا إخواننا في مصر -وهم السبئيون هناك- واتفقنا معهم على الخروج. ولما قرأ الأشتر كتاب يزيد خرج فورا للكوفة، ولحق به إخوانه الخارجون، وفقدهم عبد الرحمن بن خالد فلم يجدهم فأرسل جماعة في طلبهم فلم يدركوهم، واتصل يزيد بن قيس بجماعته مرة ثانية، واتصل جماعته بالرعاع والغوغاء في الكوفة، وتجمعوا في المسجد، ودخل عليهم الأشتر النخعي في المسجد وعمل على إثارتهم وتهييجهم ودفعهم للثورة والخروج، وكان مما قال لهم: لقد جئتكم من عند الخليفة عثمان، وتركت واليكم سعيد بن العاص عنده، وقد اتفق عثمان وسعيد على إنقاص عطائكم، وخفض أموالكم من مئتي درهم إلى مئة درهم. وقد كذب الأشتر فيما قال، ولم يتحدث عثمان وسعيد بذلك، ولكنه كيد السبئيين في نشر الأكاذيب والافتراءات لتهييج العامة، واستخف الأشتر بكلامه الناس في المسجد، وأثر في الرعاع والغوغاء وهيجهم، وكانت ضجة كبيرة في المسجد، وصار يكلمه عقلاء المسلمين من وجوههم وأشرافهم وصالحيهم وأتقيائهم؛ كأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود، والقعقاع بن عمرو، فلم يسمع لهم، ولم يستجب لهم. وصاح يزيد بن قيس في الغوغاء والرعاع داخل المسجد وخارجه، وقال: إني خارج إلى طرق المدينة لأمنع سعيد بن العاص من دخول الكوفة، ومن شاء أن يخرج معي لمنع سعيد من الدخول والمطالبة بوال مكانه فليفعل، فاستجاب لندائه السبئيون والرعاع، وخرج معه حوالي ألف منهم.

6- القعقاع بن عمرو يرى قتل قادة أهل الفتنة:
ولما خرج السبئيون والغوغاء طلبا للفتنة والتمرد وإحداث القلاقل، بقى في المسجد وجوه المسلمين وأشرافهم وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوة والوحدة ونهاهم عن التفرق والاختلاف والفتنة والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمردين، فقال القعقاع بن عمرو: أترد السيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات، لا والله لا تُسَكِّن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تُنْتَضَى ثم يعجِّون عجيج العتدان، ويتمنون ما هم فيه فلا يرده عليهم أبدا، فاصبر، فقال: أصبر, وتحول إلى منزله.

7- أهل الفتنة يمنعون سعيد بن العاص من دخول الكوفة:
سار يزيد بن قيس ومعه الأشتر النخعي بالألف من الخارجين إلى مكان على طريق المدينة يسمى (الجَرَعة)، وبينما كانوا معسكرين في الجرعة، طلع عليهم سعيد بن العاص عائدا من عند عثمان، فقالوا له: عُد من حيث أتيت ولا حاجة لنا بك، ونحن نمنعك من دخول الكوفة، وأخبر عثمان أننا لا نريد واليا علينا، ونريد من عثمان أن يجعل أبا موسى الأشعري واليا مكانك، قال لهم سعيد: لماذا خرجتم ألفا لتقولوا لي هذا الكلام؟ كان يكفيكم أن تبعثوا رجلا إلى أمير المؤمنين بطلبكم، وأن توقفوا لي رجلا في الطريق ليخبرني بذلك، وهل يخرج ألف رجل لهم عقول لمواجهة رجل واحد؟
رأى سعيد بن العاص أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقل، وهذا رأي أبي موسى الأشعري، وعمرو بن حريث, والقعقاع بن عمرو في الكوفة. وعاد سعيد بن العاص إلى عثمان وأخبره خبر القوم الخوارج، قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يدا من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنهم لا يريدونني واليا عليهم، ويريدون واليا آخر مكاني، قال له عثمان: من يريدون واليا؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعري، قال عثمان: قد عينا وأثبتنا أبا موسى واليا عليهم، والله لن نجعل لأحد عذرا، ولن نترك لأحد حجة، ولنصبرن عليهم كما هو مطلوب منا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون. وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه واليا على الكوفة.
وقبل وصول كتاب عثمان بتعيين أبي موسى واليا كان في مسجد الكوفة بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حاولوا ضبط الأمور وتهدئة العامة، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك؛ لأن السبئيين والحاقدين سيطروا على الرعاع والغوغاء وهيجوهم، فلم يعودوا يسمعون صوت عقل أو منطق. وكان في مسجد الكوفة وقت التمرد والفتنة اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هما: حذيفة بن اليمان، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، وكان أبو مسعود غاضبا لتمرد وثورة الرعاع وخروجهم إلى الجرعة، وعزلهم الوالي سعيد، وعصيانهم له، وهي أول مرة تحصل، بينما كان حذيفة بعيد النظر، يتعامل مع الحدث بموضوعية وتفكير. قال أبو مسعود لحذيفة: لن يعودوا من الجرعة سالمين، وسيرسل الخليفة جيشا لتأديبهم، وستسفك فيها دماء كثيرة، فرد عليه حذيفة قائلا: والله سيعودون إلى الكوفة، ولن يكون هناك اشتباك أو حرب ولن تسفك هناك دماء، وما أعلم من هذه الفتن شيئا، إلا وقد علمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي؛ حيث أخبرنا عن هذه الفتن التي نراها اليوم قبل وفاته، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل يصبح على الإسلام ثم يمسي وليس معه من الإسلام شيء، ثم يقاتل المسلمين، فيرتد وينكص قلبه ويقتله الله غدا، وسيكون هذا فيما بعد. لقد كان حذيفة بن اليمان متخصصا في علم الفتن، وتعامل مع فتن السبئيين في الكوفة وغيرها وفق ما سمعه وعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحضر ما حفظه من تلك الأحاديث, ففهم حقيقة ما يجري حوله، ولم يستبعده ولم يستغربه وحاول الإصلاح ما أمكنه.

8- أبو موسى الأشعري يهدئ الأمور وينهى عن العصيان:
قام أبو موسى الأشعري بتهدئة الأمور، ونهى الناس عن العصيان، وقال لهم: أيها الناس، لا تخرجوا في مثل هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم بأمير. فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان
وما كانوا صادقين في ذلك، لكنهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقية عن الآخرين، وكان أبو موسى يصلي بالناس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه واليا على الكوفة، ولما هدأت الأمور في الكوفة إلى حين - في سنة أربع وثلاثين - عاد حذيفة بن اليمان إلى أذربيجان والباب يقود جيوش الجهاد هناك، وعاد العمال والولاة إلى أعمالهم في مناطق فارس.

9- كتاب عثمان إلى الخارجين في الكوفة:
كتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة كتابا يبين فيه الحكمة من استجابته لطلبهم في عزل سعيد وتعيين أبي موسى بدله، وهي رسالة ذات دلالات هامة، وتبين طريقة عثمان في مواجهة هذه الفتن، ومحاولته تأجيل اشتعالها ما استطاع، مع علمه اليقيني أنها قادمة، وأنه عاجز عن مواجهتها، فهذا ما علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم عثمان في رسالته: أما بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، واسألوني كل ما أحببتم مما لا يعصى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة، وكتب بمثل ذلك في الأمصار. رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما أصلحه، وأوسع صدره، وكم ظلمه السبئيون والخارجون والحاقدون وكذبوا وافتروا عليه













سياسة عثمان في التعامل مع الفتنة



من خلال النصوص التاريخية في العديد من المصادر يتضح أن عثمان قد واجه الفتنة بعدد من الأساليب وهي:


أولاً: رأي بعض الصحابة بأن يرسل عثمان لجان تفتيش وتحقيق:
اهتز محمد بن مسلمة وطلحة بن عبيد الله وغيرهما لما سمعوا من الإشاعات التي بثها عبد الله بن سبأ في الأمصار، فدخلوا على أمير المؤمنين عثمان على عجل وقالوا: يا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلا السلامة. قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بما تناهى لسمعهم عن الفتنة التي تموج بها الأمصار الإسلامية، وعن الهجوم الشرس على ولاته في كل صقع، وقال: أنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا عليَّ؟ قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بخبرهم، فقام عثمان بإجراء سديد عظيم، وتخير نفرا من الصحابة لا يختلف اثنان في صدقهم وتقواهم وورعهم، ونصحهم، اختار محمد بن مسلمة الذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولاته والتفتيش عليهم في الأقاليم، وأسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبِّه، وأمير الجيش الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بإنفاذه في آخر عهده بالدنيا، فقال: أنفذوا بعث أسامة. وعمار بن ياسر السبَّاق إلى الإسلام، والمجاهد العظيم، وعبد الله بن عمر، التقي الفقيه الورع. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة إلى البصرة، وعمار إلى مصر، وابن عمر إلى الشام، وكانوا على رأس جماعة، فأرسلهم إلى تلك الأمصار الكبيرة، فمضوا جميعا إلى عملهم الشاق المضني الخطير العظيم، ثم عادوا جميعا عدا عمار بن ياسر الذي استبطأ في مصر ثم عاد، وقدموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه وسمعوه وسألوا الناس عنه. وكان ما جاء به هؤلاء واحد في كل الأمصار، وقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئا، ولا أنكر المسلمون إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عليهم.
وأما ما روي من اتهام عمار بن ياس بالتأليب على عثمان فإن أسانيد الروايات التي تتضمن هذه التهمة ضعيفة، لا تخلو من علة، كما أن في متونها نكارة.
رجع مفتشو الأمصار، واتضح بأنه ليس هناك ما يوجب على الخليفة أن يعزل واحدا من ولاته، والناس في عافية وعدل وخير ورحمة واطمئنان، وأمير المؤمنين يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويرعى حق الله وحق الرعية، وما يثار هو شكوك وأراجيف وأكاذيب يبثها الحاقدون في الظلمات لكي لا يعرف مصدرها، ولكن الخليفة البار الراشد العظيم لم يكتفِ بهذا، بل كتب إلى أهل الأمصار.


ثانيًا: كتب إلى أهل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين:
أما بعد: فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلىَّ أهل المدينة أن أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضُرب سرا، وشُتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان، مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله
يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار أبكى الناس، ودعوا لعثمان، وقالوا: إن الأمة لتمخَّض بِشَرّ .
فهل تريد الدنيا أن تسمع بحزم وعزم أعلى وأشمخ من هذا الحزم والعزم من رجل زادت سنه على اثنتين وثمانين سنة، وهو في هذه الفورة والقوة من المتابعة والتنقيب عن المظالم؟ أم هل يريد الناس أن يروا عدلا أرفع وأسمى من هذا العدل والإنصاف، حتى إن حق أمير المؤمنين الشخصي متروك لرعيته، ما دام حق الله قائما وحدوده مرعية؟ نعم عند عثمان، الذي لم يقف عند ذلك، ولم يكتفِ بأن أرسل أمناءه للتفتيش عن أحوال الناس، وكتابته من ثم إلى أهل الأمصار بأن يأتوا موسم الحج ليرفعوا شكاتهم -إن كانت لهم- أمام جموع الحجيج، ولم يكتف عثمان بذلك كله؛ بل بعث إلى عمال الأمصار أنفسهم ليواجهوا الناس عندما يرفعون مظالمهم -إن وجدت- ثم ليسألهم أمير المؤمنين عما يتناقله الناس، وليشيروا عليه بالرأي الناصح السديد الرشيد.


ثالثـًا: مشورة عثمان لولاة الأمصار:
بعث عثمان إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجل؛ عبد الله بن عامر، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص -وهم من الولاة السابقين-، وكانت جلسة مغلقة وخطيرة جرت فيها الأبحاث التالية التي تقرر خطة العمل الجديدة على ضوء الأخبار المتناهية إلى المدينة عاصمة دولة الإسلام. قال عثمان: ويحكم ما هذه الشكاية؟ وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن يكون مصدوقا عليكم وما يعصب هذا إلا بي، فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، وما كنت لتأخذ به أحد فيضمنك على شيء، وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها، ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا عليَّ، فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير ذي معرفة، فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم، فإنه خير من أن تدعهم. قال معاوية: قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتهما، قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب، قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراضيت عنهم، وزدتهم عما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك فتشد في موضع الشدة, وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شرا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعا اللين. وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سده شيء فرفق، فذاك والله ليفتحن، وليست لأحد علىَّ حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا، ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تُدْهنوا فيها.
لقد خالف عثمان رأي أخيه عمرو باتباع الشدة، ولم يخالفه في اتباع سنة صاحبيه، فرحى الفتنة دائرة، ولا تعالج بالعنف؛ لأن العنف هو الذي يدير هذه الرحى، ولن يرضى أمير المؤمنين أن يكون صاحبها (فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها)، وكان واضحا صريحا فيما لا هوادة فيه وهي حدود الله، فلا مداهنة فيها وما غير ذلك؛ فالرفق أولى والمغفرة أفضل، ولا بد من تأدية الحقوق كلها.
وقد جاءت روايات بسند فيه ضعيف ومجهولون تشوه العلاقة بين عمرو بن العاص وعثمان رضي الله عنهما، وساهمت روايات ساقطة في مسخ صورة عمرو بن العاص، وتحويل علاقته بعثمان إلى علاقة فاتك خطط لقتل أميره، ثم عاد بانتهازية ليطالب بدمه. وهذه الرواية ضعيفة ومرفوضة عند أهل التاريخ وأهل الحديث. وقد جاء في رواية بسند فيها ضعفاء ومجهولون أيضا بأن عمرو بن العاص قال: يا عثمان: إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا, وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما. وجاء في نفس الرواية أن عبد الله بن عامر قال: أرى لك أن تجمرهم في هذه البعوث حتى يهم كل رجل منهم قمل فروة رأسه ودبر دابته، وتشغلهم عن الإرجاف بك.
إن عثمان t منع الولاة من التنكيل بمثيري الشغب (حبسهم أو قتلهم)، وقرر أن يعاملهم بالحسنى واللين, وطلب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كل بصير يرى أنها قادمة.

1- اقتراحان لمعاوية يرفضهما عثمان رضي الله عنهما:
قبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشام، أتى إلى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قبل لك بها.
قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشا من أهل الشام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيق على أهل الهجرة والنصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين, والله لتغتالن أو لتغزين، قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
لكأنما معاوية كان يعلم أن وراء تلك الفتن والشائعات يدا خبيثة تخطط لهدف مرهوب ليس دونه ضرب الخليفة والخلافة، لكن عثمان الخليفة الراشد كان له رأي آخر، فهو يريد أن يسير مع هؤلاء لآخر الطريق حتى لا يترك لهم حجة عند الله وعند الناس، فيفضحهم في الدنيا والآخرة، وتلك مصابرة عظيمة من هذا الإمام العادل العظيم.

2- عثمان يخترق صفوف المتآمرين بعد مجيئهم للمدينة:
كان أمير المؤمنين عثمان من اليقظة والوعي ما يجعله يحقق بقلم استخباراته مع هؤلاء المتآمرين، حيث بث في صفوفهم رجلين من المسلمين كانا قد عوقبا من الخليفة ليطمئن المتآمرون إليهم، فقد أرسل عثمان رجلين، مخزوميا وزهريا فقال: انظرا ما يريدون واعلما علمهم، وكانا مما نالهما من عثمان أدب فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة، قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قالوا: لا، قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ وشرح هؤلاء القوم للرجلين أبعاد المؤامرة كاملة والخطة المقترحة، وقالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها فلم يخرج ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها، فرجعا إلى عثمان فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا. فأرسل إلى الكوفيين والبصريين ونادى: الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وحقيقة ما يريدون من تأكيد الشبهات عليه تمهيدا للخروج عليه وخلعه أو قتله، وقام الرجلان اللذان حادثا السبئيين، فشهدا بما أخبروهما به، فقال المسلمون جميعا في داخل المسجد: اقتلهم يا أمير المؤمنين، لأنهم يريدون الخروج على أمير المؤمنين، وتفريق كلمة المسلمين. ورفض عثمان دعوة الصحابة لقتلهم؛ لأنهم مسلمون في الظاهر، من رعيته، ولا يرضى أن يقال: عثمان يقتل مسلمين مخالفين له، ولذلك رد عثمان بن عفان على تلك الدعوة قائلا: لا نقتلهم، بل نعفو ونصفح، ونبصرهم بجهدنا، ولا نقتل أحدا من المسلمين، إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب القتل، أو أظهر ردة وكفرا

رابعًا: إقامة الحجة على المتمردين:
ثم دعا عثمان القوم السبئيين إلى عرض ما عندهم من شبهات وإظهار ما يرونه من أخطاء وتجاوزات ومخالفات وقع هو فيها، وكانت جلسة مصارحة ومكاشفة في المسجد على مرأى ومسمع من الصحابة والمسلمين، فتكلم السبئيون وعرضوا الأخطاء التي ارتكبها عثمان - على حد زعمهم-, وقام عثمان بالبيان والإيضاح وقدم حججه وأدلته فيما فعل، والمسلمون المنصفون يسمعون هذه المصارحة والمحاسبة والمكاشفة، وأورد عثمان ما أخذوه عليه، ثم بين حقيقة الأمر ودافع عن حسن فعله، وأشهد معه الصحابة الجالسين في المسجد.
1- قال: قالوا: إني أتممت الصلاة في السفر، وما أتمها قبلي رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، لقد أتممت الصلاة لما سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيها أهلي فأنا مقيم بين أهلي ولست مسافرا، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
2- وقالوا: إني حميت حمى، وضيَّقت على المسلمين، وجعلت أرضا واسعة خاصة لرعي إبلي، ولقد كان الحمى قبلي لإبل الصدقة والجهاد، حيث جعل الحمى كل من رسول الله وأبو بكر وعمر، وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ثم لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرعي في ذلك الحمى، وما حميت لماشيتي، ولما وليت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلا وغنما، وقد أنفقتها كلها، ومالي الآن ثاغية ولا راغية، ولم يبق لي إلا بعيران، خصصتهما لحجي، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
3- وقالوا: إني أبقيت نسخة واحدة من المصاحف، وحرقت ما سواها، وجمعت الناس على مصحف واحد، ألا إن القرآن كلام الله، من عند الله، وهو واحد، ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين على القرآن، ونهيتهم عن الاختلاف فيه، وأنا في فعلي هذا تابع لما فعله أبو بكر، لما جمع القرآن، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
4- وقالوا: إني رددت الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاه إلى الطائف، إن الحكم بن العاص مكي، وليس مدنيا، وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف، وأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعدما رضي عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيره إلى الطائف، وهو الذي رده وأعاده، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم.
5- وقالوا: إني استعملت الأحداث ووليت الشباب صغار السن، ولم أولِّ إلا رجلا فاضلا محتملا مرضيا، وهؤلاء الناس أهل عملهم فسلوهم عنهم. ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم وأصغر منهم سنا، ولقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وهو أصغر ممن وليته، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما قالوا لي، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم، إن هؤلاء الناس يعيبون للناس ما لا يفسرونه ولا يوضحونه.
6- وقالوا: إني أعطيت عبد الله بن سعد بن أبي السرح ما أفاء الله به، وإنما أعطيته خمس الخمس -وكان مئة ألف- لما فتح أفريقية، جزاء جهده، وقد قلت له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة نفلا، وقد فعلها قبلي أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون: إنا نكره أن تعطيه خمس الخمس ولا يحق لهم الاعتراض والرفض، فأخذت خمس الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئا، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم.
7- وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لأهل بيتي فإنه لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور وظلم الآخرين، بل أحمل الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم، وأما إعطاؤهم فإني أعطيهم من مالي الخاص، وليس من أموال المسلمين، لأني لا أستحل أموال المسلمين، ولا لأحد من الناس. ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وجعلت مالي الذي لي لأهلي وأقاربي، قال الملحدون ما قالوا؟ وإني والله ما أخذت من مصر من أمصار المسلمين مالا ولا فضلا، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال، ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ولقد تولى المسلمون تقسيم تلك الأخماس، ووضعها في أهلها، ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فِلْسًا فما فوقه، وإنني لا آكل إلا من مالي، ولا أعطي أهلي إلا من مالي.
8- وقالوا: إني أعطيت الأرض المفتوحة لرجال معينين، وإن هذه الأرضين المفتوحة قد اشترك في فتحها المهاجرون والأنصار وغيرهم من المجاهدين، ولما قسمت هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين، منهم من أقام بها واستقر فيها، ومنهم من رجع إلى أهله في المدينة أو غيرها، وبقيت تلك الأرض ملكا له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي، وكان ثمنها في أيديهم.
وبذلك أورد عثمان أهم الاعتراضات التي أثيرت عليه، وتولي توضيحها، وبيان وجه الحق فيها. وترى من ذلك الدفاع المحكم الذي دافع به عثمان بن عفان, وساجل الصحابة فيه وذاكرهم إياه صورة لما كان يجري من النقد المر العنيف له وما كان يشيعه السبئيون من قالة السوء، وما يعملون على ترويجه من باطل مزيف، فقد أجمل ذكر الاعتراضات التي كانوا يعترضون بها عليه، وبيَّن وجه الحق فيما يفعل، وأنه كان على بينة من أمره وعلى حجة من دينه، ولكنهم مغرضون لا يريدون رشادا، ولا يبغون سدادا، فمجادلته لهم مجادلة رجل مخلص مع آخر يتربص به الدوائر ويتسقط هفواته لينفذ أغراضا, ويلقى في نفوس الناس عنه إعراضا، ومن كان شأنه كذلك لا تقنعه الحجة، ولا يهديه الدليل، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وقد سمع كلامه وتوضيحه زعماء أهل الفتنة الذين بجانب المنبر، كما سمعه الصحابة الكرام ومن معهم من المسلمين الصالحين، وتأثر المسلمون بكلام عثمان وبيانه وتوضيحه وصدقوه فيما قال، وازدادوا له حبًّا، وأما السبئيون دعاة الفتنة والفرقة، فلم يتأثروا بذلك ولم يتراجعوا؛ لأنهم لم يكونوا باحثين عن حق، ولا راغبين في خير، إنما كان هدفهم الفتنة، والكيد للإسلام والمسلمين. وقد أشار الصحابة والمسلمون على عثمان بقتل أولئك السبئيين (زعماء الفتنة) بسبب ما ظهر من كذبهم وتزويرهم، وحقدهم بل أصروا عليه في قتلهم، ليتخلص المسلمون من شرهم، وتستقر بلاد المسلمين ويقضي على الفتنة التي يثيرها هؤلاء وأتباعهم، ولكن عثمان كان له رأي آخر وتحليل مغاير، فآثر أن يتركهم، ورأي عدم قتلهم محاولة منه لتأخير وقوع الفتنة، ولم يتخذ عثمان ضد السبئيين القادمين من مصر والكوفة والبصرة أي إجراء مع علمه بما يخططون ويريدون، وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلادهم.


خامسًا: الاستجابة لبعض مطالبهم:
استجاب لبعض مطالبهم في خلع بعض الولاة وتولية من طلبوا توليته، هذه الأساليب كافية في المعالجة وإقامة الحق والعدل لو كانت الأمور تسير في وضعها الطبيعي، لكن الواقع أن وراء هذه الشكاوى والإثارات أمورًا خفية، وأحقادا جاهلية تسعى لإثارة الفتنة بين المسلمين وتفريق وحدتهم، ووقوع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من استشهاد عثمان


سادسًا: ضوابط التعامل مع الفتن عند عثمان :
إن المتأمل في هدي عثمان في تعامله مع الفتنة التي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضوابط التي تعين المسلم في مواجهته للفتن، ومن هذه الضوابط:
1- التثبت:فقد أرسل لجان تفتيش للأمصار واستمع لأهلها، واستطاع أن يخترق جماعة السبئيين ويقف على حقيقة أمرهم، ولم يستعجل في إصداره للأحكام عليهم.
2- لزوم العدل والإنصاف:فقد اتضح هذا الضابط في كتابه للأمصار، وطلب
ممن ادعى أنه شتم أو ضرب من الولاة فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان منه
أو من عماله.
3- الحلم والأناة:ويتضح هذا الضابط في كتابه لأهل الكوفة عندما طلبوا عزل سعيد بن العاص وتعيين أبا موسى الأشعري وقد جاء في هذا الكتاب: «.. والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولاستصلحنَّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه».
4- الحرص على ما يجمِّع، ونبذ ما يفرق بين المسلمين: ولذلك جمع الناس على مصحف واحد كما مر معنا، وعندما عرض عليه الأشتر النخعي عروضا ثلاثة -يأتي تفصيلها بإذن الله- قال عثمان: «... وإن قتلتموني فلم أرتكب ما يوجب قتلي، والله لئن قتلتموني فإنكم لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون جميعا بعدي أبدا، ولا تقاتلون العدو جميعا بعدي».
5- لزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام: من خلال سيرة عثمان تتضح صفة قلة كلامه إلا فيما ينفع من علم أو نصح أو توجيه أو رد اتهامات باطلة، وقد كان كثير الصمت قليل الكلام.
6- استشارة العلماء الربانيين:فقد كان يستشير علماء الصحابة كعلي، وطلحة، والزبير، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم جميعا، فالعلماء هم صمام الأمان، والملجأ في الخطوب المدلهمة والفتن المظلمة؛ لأنهم أبصر الناس بحالها، وأعرفهم بمآلها، فمن التجأ إليهم وجد الفهم السليم والنظر الصحيح، والموقف الشرعي الواضح.
7- الاسترشاد بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن: إن منهج عثمان أثناء الفتنة ومسلكه مع المتمردين الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ولا ضغط الواقع؛ بل كان منهجا نابعا من مشكاة النبوة؛ حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتساب وعدم القتال حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وقد وفَّى ذو النورين بوعده وعهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم طوال أيام خلافته حتى خر شهيدا مضرجًا بدمائه الطاهرة الزكية وقد قال محب الدين الخطيب: الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء المسلمين، إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم، وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه، فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف. والأخبار بذلك مستفيضة في مصادر أوليائه وشانئيه، على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه الثوار، وتضع حدا لغطرستهم وجاهليتهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدا













* * *








يتبـعـ ...


 
 توقيع : قيس





رد مع اقتباس